الثلاثاء، 1 أبريل 2008

‏مدينة‏ الحريم


قد‏ ‏تعتريكم ‏أطياف وأمواج ‏من‏ ‏الاستغراب‏ والاستهجان ‏حينما ‏تقرؤون‏ ‏حكايتي , ‏ وقد‏ ‏يترك البعض منكم لخياله الحبل على الغارب ، ليستحوذ عليه شعور بأنني عرافة مخاوية الجان‏.
لذا ‏‏استحلف‏ ‏بالله‏ كل من يتصفح حكايتي ، بعدم التسرع والتمهل حتى يهضمها وينتهي من قراءتها بالتمام ، بعدها يمكن إطلاق الأحكام مثل بقية الناس.‏
معذرة‏ ‏إن‏ ‏كانت قصاقيص‏ ‏من قصتي تطايرت وتناهت إلى أسماعكم , ‏لكن ‏رجائي‏ ‏الوحيد‏ ‏أن‏ ‏تسمعوا ‏تفاصيلها بالكامل مني ‏.. قد تكون هناك بضعة تفاصيل ‏مملة أو يراها البعض ضد مصالحه .. ‏لذا لا تضعوا أصابعكم في آذانكم‏ ‏من‏ ‏البداية‏ ‏مثل‏ ‏الآخرين‏ ، ‏وتضربوا‏ ‏كفا‏ ‏بكف‏ , ‏وتتحسروا‏ ‏علي‏ ‏ست‏ ‏العاقلين‏ ‏التي‏ جنت‏.‏
‏أبدأ حكايتي من وصف المكان الذي وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏بداخله واقفة في حيرة من أمري وحيدة ‏.. قد يتبادر إلي أدمغتكم استفسار عن كيفية وصولي إلي هذا المكان ، ولكني لا أعرف‏ حتى الآن‏ , ‏من المؤكد‏ ‏أنني‏ ‏انحدرت‏ ‏إليه‏ من‏ احد الأطباق الطائرة التي تعرفنا عليها من حكايات جدتي ‏, ‏أو‏ ‏جئته‏ ‏زاحفة‏ ‏عبر‏ ‏نفق‏ ‏مظلم‏ ‏تترسب‏ ‏علي‏ ‏جدرانه‏ ‏أملاح‏ ‏ورطوبة‏ ‏وريم‏ ‏أخضر‏.‏
‏ ما يهمني حشوه في رءوسكم ، أنني فوجئت بوجودي وبقدرة‏ ‏قادر‏ ‏منتصبة مثل‏ ‏خيال‏ ‏المآتة‏ , ‏في‏ ‏مكان‏ ‏مقفر مغطي بطبقة من الرمال الحمراء‏.. مخيف‏ ‏موحش‏ , ‏بحثت‏‏ ‏لكم عن‏ ‏ألفاظ‏ ‏توحي ‏وتعينكم على تخيل‏ ‏غرابة شكله ‏فلم‏ ‏أجد‏ .. أجهدت نفسي مرارا حتى ‏أعياني‏ ‏وأرهقني‏ ‏البحث لوصفه ، فحاولوا‏ ‏أنتم‏ ‏أن‏ ‏تتخيلوا هذا المكان..‏ ضباب‏ ‏كثيف‏ يكسوه .. كثافته ‏أشد‏ ‏من‏ ‏شبورة‏ الصيف التي تسدل أهدابها علي الطرقات الزراعية في الصباح الباكر‏ , وآهات‏ وآنات ‏عميقة‏ ‏تدوي , ‏أما الإضاءة فهي‏ ‏باهتة‏ ‏مخنوقة‏ ‏لا تشبه‏ ‏ضوء‏ القمر‏ ‏أو‏ ‏أشعة‏ ‏الشمس‏, ‏ورمل‏ ‏غريب‏ ‏أحمر‏ ‏قاني‏.‏
ساعتها تملكتني‏ ‏رعشة خوف‏‏ ‏في‏ ‏أطرافي , ‏علي أثره‏ ‏دب‏ ‏مغص‏ ‏شديد‏ في‏ ‏قلبي , ‏وصكة‏ مسموعة‏ ‏في‏ ‏أسناني‏.‏
اندفعت كالمجنونة ‏أروح‏ ‏وأجئ‏ ‏بسرعة‏ ، وقدماي تنغرسان ‏حتى الكعبين داخل‏ طبقة الرمال‏ ‏ حتى داهمني الإرهاق ,‏ كنت ‏أروح‏ ‏وأجئ‏ ‏مثل‏ ‏كلب‏ ‏قرصه الجوع‏ , ‏ولكن‏ ذاكرته خانته وفقد ‏مكان‏ ‏العظمة‏ ‏التي‏ ‏كان قد خبأها‏.
بعد فترة وجيزة ‏لمحت‏ من بعيد ‏شيخ‏‏ ‏أحني‏ ‏الزمن‏ ‏ظهره ، ‏يجلس‏ ‏فوق‏ ‏صخرة‏ ‏صغيرة‏ , ‏يحدق ‏بنظره‏ الضعيف داخل‏‏ بؤرة بها‏‏ ‏أكوام من الحصى‏ ‏,‏ ‏بعصا‏ غريبة ‏الشكل أخذ يداعبها ‏, و‏فوق‏ ‏تجاعيد وجهه‏ ‏النحيل المغطي‏ ‏بنمش‏ ‏بني‏ , استقر ‏تعبير‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ المعالم ، ‏لا ينم عن‏ ‏ابتسامة‏ ‏ولا حزن‏ ‏أو‏ اندهاشة ‏أو‏ ‏يقين‏ ‏, ‏أسفل‏ ‏عينه‏ ‏اليمني‏ مباشرة ‏تصاحب وجهه رعشة بصورة ‏واضحة‏ ‏ومستمرة‏ .. ‏هل‏ ‏هي‏ ‏رعشة‏ ‏خوف‏ ‏؟‏! ‏أم‏ ‏رعشة‏ ‏قلق‏ ‏؟‏! ‏لم‏ ‏أتبين سببها بدقة‏ ‏.‏
كان يرتدي سترة‏ غريبة ‏لم‏ ‏أر‏ لها مثيلا‏ ، ‏إلا‏ في السترات‏ ‏التي كان يرتديها رعاة‏ ‏البقر‏ ‏في‏ ‏الأفلام‏ ‏الأمريكية ‏, ‏كانت‏ ‏طويلة‏ ‏من الخلف عن‏ ‏الحد‏ ‏المعروف‏ عنه الآن ، يزينها خطوط طولية وصفان‏ من الأزرار‏ النحاسية‏.‏
‏حينما تنبه‏ ‏العجوز‏ ‏إلي وجودي‏ , ‏نهض‏ في تثاقل ‏.. مشي‏ ‏ناحيتي‏ ‏بخطوات‏ ‏بطيئة‏ تناسب أقدامه‏ ‏الضعيفة‏ المرتعشة‏ التي تكاد ‏تحمله‏ ‏بالكاد‏ , ‏ولولا‏ تلك ‏العصا‏ ‏الغريبة المزركشة‏ ‏التي‏ ‏يستند‏ ‏عليها‏ , لإنكفأ‏ ‏علي‏ ‏وجهه‏ ، عصا صنعت‏ ‏خصيصا‏ ‏من‏ ‏أجله‏ , ‏‏شكلها‏ ‏يصيبك بالرعب ‏نحتت‏ ‏علي‏ ‏هيئة‏ ‏حية‏ ‏سوداء‏ ‏يتدلى منها ‏لسان ‏أحمر.‏
بمجرد أن تنبه سارع برسم‏ ‏ابتسامة‏ ‏عريضة‏ علي‏ ‏وجهه ، من الوهلة الأولى‏ توحي لك ‏بأنها مصطنعة‏ ‏وتحمل عتابا‏ , كانت كافية بأن ‏‏تدفعني‏ ‏للإحساس بالتوجس والريبة‏ ‏منه‏ , ‏ولكن شهادة لله فقد انتابني شعور بأن‏‏ ‏تقاطيع‏ ‏وجهه‏‏ ‏مألوفة لي ..
‏- ‏لماذا‏ ‏تأخرت ‏‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏ ‏؟‏!‏
في‏ ‏لعثمة‏ ‏واضحة رددت عليه ‏:-‏
‏- ‏هل‏ ‏كنت‏ ‏تنتظرني‏ ‏؟‏!‏
‏- ‏بلي منذ‏ ‏فترة‏ ‏طويلة‏ , ‏ألم‏ ‏تقرئي‏‏ ‏الدعوة‏ ‏الموجهة‏ ‏إليك‏ ..
أشار بسبابة يده اليسري تجاه الملف‏ الذي أحمله ، ملف ‏بلاستيك لونه أحمر‏ .. لم أتوان لحظة في فتحه والبحث‏ ‏بين‏ دفتيه‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الدعوة‏, ‏‏قرأت‏ ‏منها‏ ‏الجزء العلوي حتى‏ ‏وصلت‏ ‏إلي‏ ‏اسمه‏ المدون ،‏انعقد‏ ‏لساني‏ ‏عن الكلام وشعرت بتضخم في أذني ، وأصوات من الدبابير‏ والنحل تطن بداخلها‏.‏
لم أصدق مقلتي .. ‏قاسم‏ ‏أمين في انتظاري‏ ‏بشحمه‏ ‏ولحمه‏ .. في ‏مكاني‏ ‏ تسمرت‏ بطريقة‏ ‏كان‏ ‏ينقصني‏ ‏فيها‏ ارتداء ‏التاج‏ ‏حتى أتحول إلي‏ ‏الملكة نفرتيتي‏ .. توهم‏ ‏في ‏صمتي‏ ‏بأنه ‏إنصات‏ ‏إلي‏ ‏حديثه‏ , ‏فراح‏ ‏يتحدث‏ ‏ويتكلم‏ ، ربما ما كان‏ ‏يشغل‏ ‏بالي‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ , ‏هو وجود‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏في‏ مثل ‏هذا‏ ‏المكان‏ ‏الموحش‏ , ‏وما بالي‏ ‏بالمدينة‏ ‏التي‏ ‏يدعونني‏ ‏إليها‏ ‏؟‏!‏
‏أخذ النهار في التلاشي , ‏انكسرت الإضاءة داخل المكان ، مكث يرغي وأنا أنصت ، حتى‏ انتزعتني‏ ‏‏منه مفاجأة‏ ‏أشد‏ ‏، خرج‏ ‏علينا‏ ‏شخص غريب الشكل ، شق‏ ‏العتمة‏ بعضلاته النافرة والشعر الكثيف الذي يضرب جسده العاري ، ‏من النظرة الأولي قد تحسبونه قد سقط من‏ ‏القرون‏ ‏البدائية‏ , ‏ذو‏ ‏طراز‏ ‏انمحي‏ ‏وأصبح‏ ‏من‏ ‏الحفريات‏, ‏فهو‏ ‏أقرب‏ ‏ في مخيلتكم‏ ‏إلي‏‏ ‏العبيد‏ ‏الذين نراهم في الأفلام ، ‏كانت‏ ‏تجلبهم ‏الملكة‏ ‏كليوباترا‏ ‏أو‏ ‏شجرة‏ ‏الدر‏ ‏ليحملونهما‏ ‏فوق‏ الأعناق‏ ‏علي كرسي‏ ‏من الخشب, ‏ليطلن‏ علي ‏رعاياهن .‏
خرج علينا بشعر أشعث‏ ‏ , وجسده‏ ‏فارع‏ .. ‏ممتلئ‏ .. ‏شبه عار ، ‏ووجه صارم‏ ‏عبوس‏ ‏عاري من الإحساس, ‏ونظرات ‏باردة‏ ‏متحجرة‏ ‏.
أتجه هذا النفر ناحية قاسم أمين ، في خطوات محسوبة وموحدة الخطى ، كأنه إنسان آلي مبرمج بعناية ، مد يده الغليظة وسلم‏ في ترحاب واضح ، وسط ابتسامة متبادلة بينهما ‏، ‏لمحت ‏علي‏ ‏وجه‏ ‏هذا‏ ‏الثور‏ ‏نفس‏ ‏الرعشة‏ ‏الموجودة‏ ‏أسفل عين‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏.‏
أدرك قاسم‏ ‏مدي الخوف الذي يخالجني‏ ‏من‏ أثر رؤيتي لهذا‏ ‏الثور‏ , ابتسم ‏ناحيتي‏ ‏لكي ‏يهدئ‏ ‏من‏ ‏روعي‏ , قبض‏ ‏علي‏ ‏يدي‏ بشدة ‏وقال:-
- لا ترتعد ‏فهي‏ ‏حارسة‏ المدينة .. ‏جاءت‏ ‏لترافقنا ‏إلي‏ ‏بيت‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏.‏
بعد أن تعرفت علي طبيعة هذا الثور ، امتزج ‏الخوف‏ لدي ‏بقشعريرة‏ ‏وتقزز‏ ‏من‏ ‏شكلها‏ ، كادت أمعائي تتقطع من مغص كان يدب بها ، كلما نظرت تجاهها وهي تعبر بنا‏ ‏ساحة‏ واسعة , ‏وقاسم أمين يتحرك ببطيء متعلقا بيدي اليمني حتى‏ ‏وصلنا‏ ‏إلي‏ ‏مدخل‏ ‏المدينة‏.‏
داهمتني دهشة غريبة من شكل المدينة‏ ‏فهي غير‏ ‏مدينتنا‏ ، ‏مبانيها‏ ‏تقف‏ ‏بلا‏ ‏تفاصيل‏ ‏بلا أبواب‏ ‏ولا شبابيك‏ , ‏شوارع ‏ضيقة‏ ‏خانقة‏ تتصاعد‏ ‏في‏ ‏بعض‏ ‏أجزائه ‏وتنحدر‏ ‏فجأة‏ ‏في‏ ‏أماكن‏ ‏أخري‏ , وعلي‏ ‏جانبي كل شارع يجري‏‏ ‏‏ماء‏ ‏لونه‏ ‏أحمر‏ ‏تتصاعد منه رائحة‏ ‏خمور‏ داخل ‏قناة، رائحة كنت أشمها في كافة الشوارع والمباني ، نفاذة تكاد تسكر قاطنيها , ‏تتجمع‏ ‏حولها‏‏ ‏الحارسات‏ ‏حاملات كئوس‏ ‏من الفضة ، يملأنها ويشربن‏ ‏.‏
كان هناك صدي لأصوات‏ ‏ضرب‏ ‏ومشاجرات‏ ‏وآهات‏ تحملها تيارات الهواء إلي آذاننا ، كانت تتردد في‏ ‏كافة شوارع‏ ‏المدينة‏ ‏, ‏ومن وقت لآخر كان هناك رجال‏ ‏ونساء‏‏ يشبهن الرجال والنساء في مدينتنا ‏يمرون‏ ‏بجوارنا مكبلين ‏بسلاسل‏ ، وقد ارتسمت علي وجوههم علامات من القرف والتقزز , وبانت علامات التعذيب علي ملابسهم الممزقة ، ووجوههم المصابة بكدمات زرقاء ودماء ناشفة ، كانوا مقيدين بجنازير يمسك ‏بأطرافها‏ حارسات‏ المدينة.‏
لم‏ ‏نمش‏ ‏كثيرا‏ ‏حتى‏ ‏بلغنا‏ ‏دار ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ , كان لونها من الخارج أحمر ، وهو لون يميزها عن ألوان بيوت المدينة الزرقاء ، عندها‏ انشق ‏الحائط‏ ‏عن‏ ‏باب‏ ‏واسع‏ , دلفنا ‏إلي‏ ‏حجرة‏ ‏رغم‏ ‏ضيقها‏ ‏الواضح‏ , ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏تبدو‏ ‏واسعة‏ ‏لقلة‏ الأثاث ‏الموجود‏ ‏بها‏ , ‏وفي‏ ‏الجانب‏ ‏الأيمن‏ ‏منها‏‏ ‏لمحت‏ ‏بابا‏ ‏آخر‏ ‏موارب‏ ‏، يتسرب‏ ‏منه‏ ‏ضوء‏‏ ‏خافت ،‏ ‏وخيال‏ ‏لشخص‏ ‏يروح‏ ‏ويجئ‏ ، ‏وصوت‏ اصطدام ‏أكواب وملاعق ورائحة‏ ‏نفاذة‏.‏
‏استقبلتنا‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏بابتسامة‏ ‏تشبه‏ إلي حد قريب ‏ابتسامة‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ , ‏من‏ ‏الوهلة ‏الأولي‏ ‏أدركت‏ ‏سبب‏ ‏اندهاش‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏حينما ‏قابلني في الساحة الخارجية‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ ،‏ ‏فقد بهره‏‏ ‏التشابه‏ ‏في الشكل الذي‏ ‏يجمع‏ ‏بيننا, ‏ولولا‏ ‏الشعر‏ ‏الخفيف‏ ‏النابت‏ فوق شفتها العلوية ، ويخط لها شنب خفيف , ‏وشعرها‏ ‏الأبيض‏ ‏المنقوش‏ , ‏والنظارة‏ ‏السميكة‏ المتهاوية علي أرنبة أنفها المدبب ‏، التي‏ ‏تضفي‏ ‏عليها‏ ‏مسوح‏ ‏الراهبات‏ ، ‏لولا‏ كل ‏ذلك‏ ‏لفشلت‏ ‏أنا‏ ‏الأخرى‏ ‏في‏ ‏معرفة‏ ‏الفرق‏ ‏بيننا‏ , ‏والشئ‏ ‏الأغرب‏ ‏أنني لمحت ‏نفس‏ ‏الرعشة‏ ‏الموجودة‏ ‏عند‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏وعند‏ ‏الحارسة‏ ‏موجودة‏ ‏عندها‏.‏
‏ استقرت بنا الجلسة‏ ‏في‏ ‏منتصف‏ ‏الحجرة‏ , ‏تحت‏ ‏إضاءة‏ ‏مصابيح‏ ‏قوية‏ ‏ذات ألوان حمراء‏ موجهة إلي عيوننا , ‏تناولت ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ الملف الذي أحمله ، قلبت بين‏ ‏أوراقه , ‏تعرفت علي محتوي الخطبة‏ ‏التي‏ ‏سألقيها‏ ‏خلال‏ ‏احتفال‏ المدينة , ‏وكان‏ ‏تأثير حروفها ‏واضحا‏ ‏علي‏ معالم ‏وجهها‏ ‏المجعد‏ , ‏وفي‏ ‏كلمات‏ ‏المدح‏ ‏والثناء‏‏ .
بينما كنت أفرك يدي بقوة في انتظار الانتهاء من قراءة خطبتي ، ‏دقت‏ ‏‏الرئيسة ناقوس‏ ‏موضوع‏ في إهمال‏ ‏علي‏ ‏منضدة ‏صغيرة‏ ‏من‏ ‏الحديد ، أدركت‏ ‏من‏ ‏تحرك‏ ‏الخيال‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ تخاطب‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ‏الموجود‏ ‏في‏ ‏الحجرة‏ ‏الملاصقة‏ .
‏‏في‏ ‏الغالب‏ ‏الأعم‏ ‏ ‏أنه‏ ‏مطبخ‏ , خرجت‏ ‏من‏ ‏داخله‏ ‏سيدة‏ , ‏ شكلها بشع ‏ ‏أصابتني‏ رؤيتها من الوهلة الأولي بالقيء‏ ‏والغثيان‏ ‏, ‏والذي‏ ‏لا أرغب في‏‏ ‏تذكره‏ ‏الآن‏ , ‏ولكي تشعرون بما أصابني تخيلوا‏ ‏ساقين‏ ‏من‏ ‏عيدان‏ ‏البلوط‏ , ‏البارز منه ‏شوك‏ ‏وشعر‏ ‏كثيف‏ ‏فيكون‏ هذا ‏ساقيها‏ , ‏وماسورة‏ ‏مدببة لدبابة‏ ‏أكلها‏ ‏الصدأ‏ ‏فتكون‏ هذه ‏بطنها‏ ‏التي‏ ‏تسبقها‏ , ‏وشقة‏ ‏بطيخ‏ ‏نزع‏ ‏من‏ ‏داخلها‏ ‏اللب الأسمر ‏ , ‏فيكون‏ ‏ذلك وجهها‏ ‏الذي‏ ‏تظهر‏ ‏عليه‏ ‏معركة‏ ‏قديمة‏ ‏للجدري‏ , ‏أما‏ ‏عودها‏ ‏فكان‏ ‏مثل‏ ‏عود‏ ‏القصب‏ ‏الذي‏ ‏انتزعت‏ ‏منه‏ ‏الزعزوعة‏.‏
خرجت‏ ‏علينا‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ ‏من المطبخ ، تسبقها‏ ‏بطنها‏ ‏وصينية‏ ‏مرصوص عليها‏ ‏ثلاثة‏ ‏أكواب‏ من الزجاج الأحمر القاني , ‏تناول ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏ورئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏كوبيهما‏ , ‏ومدت‏‏ ‏الصينية‏ جهتي , ‏‏ترددت‏ ‏في‏ ‏مد‏ ‏يدي‏ ناحية الكوب ، لأنني لا أقوي علي تحمل الرائحة‏ ‏الغريبة‏ التي كانت تتصاعد من هذا الكوب ، رائحة ‏أقرب‏ ‏إلي‏ ‏الشيح‏ ‏الذي‏ ‏نستخدمه‏ ‏لطرد الثعابين من بيوتنا ‏، شعرت‏ ‏بذلك‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ , ‏فابتسمت‏ ‏وقالت‏ :-‏
‏- ‏لا تخافي‏ .. ‏اشربي‏ ‏يا شيخة‏ .. ‏اشربي‏ ‏فزوجي‏ ‏يعتبر‏ ‏أنظف‏ ‏رجل‏ ‏في‏ ‏رجال‏ ‏القرية‏ ‏في‏ ‏شغل‏ ‏البيت‏.‏
بمجرد‏ أن تعرفت علي‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ الحامل‏ ‏رجل‏ , ‏خارت قواي و‏غصت نفسي ودفعت إلي‏ ‏القيء‏ المستمر , ‏وغامت عيناي وسقطت‏ ‏مغشيا‏ علي ، حينما استيقظت تساءلت :-
- هل الرجال يمكن أن يحملوا
ولكن استفساري قوبل بصمت يحمل استهجانا ، ‏خرجنا‏ ‏نحن‏ ‏الثلاثة‏ ‏قاصدين‏ ‏الساحة‏ الرئيسية للمدينة ‏التي‏ ‏تجري‏ ‏فيها‏ ‏الاحتفالات‏.‏
تعلق‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏في يدي اليمني‏ ، وبجوارنا ‏مشت رئيسة المدينة تحيط بها حارساتها ، ولكن حدثت لي مفاجأة ونحن‏ ‏نواصل السير‏ ‏في‏ ‏الشارع‏ ‏العمومي‏ ‏المؤدي‏ ‏إلي‏ ‏ساحة‏ الاحتفالات .. ‏استرعي‏ ‏انتباهي قيام‏ ‏جمع‏ ‏غفير من‏ ‏الحارسات‏ ‏يقدن في الجنازير بضع‏ ‏رجال‏ ‏ونساء‏‏ , ويقمن‏ ‏بملء‏ ‏الكئوس‏ ‏من‏ ‏القنوات ‏الجارية‏ ‏بجانبي ‏الشارع‏ , ‏وإرغام‏ هؤلاء ‏المكبلين‏ علي تناولها وشربها . ‏
‏حتى هذه المرحلة لم تكن مفاجأة ، لأن المشهد السابق تصادفه كلما تقدمت داخل المدينة ، ولكن المفاجأة كانت في وجود شيخ ‏ أحني الزمن ظهره ،‏ ‏اصفر‏ وجهه ‏من‏ ‏شدة‏ ‏الوهن‏ , ‏ذو‏ ‏شنب‏ ‏كث‏ يغطي جزء من فمه ، يستند في مشيه علي عصا‏، ويرتدي‏ ‏حلة زرقاء‏ ‏قديمة‏ رخيصة الثمن , ‏وعلي رأسه تستقر طاقية زرقاء .
نظرات ‏هذا‏ ‏الشيخ‏ كانت موجه وتراقب ‏قاسم‏ ‏أمين‏ .. ‏نظرات‏ محملة باللوم‏ ‏والعتاب‏ , ‏أحزنت‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ودفعته إلي ‏جذبي‏ ‏من‏ ذراعي‏ , ‏والإسراع بي‏ مبتعدا ‏، دون‏ ‏أن‏ ‏يعطي هذا الشيخ ‏ ‏أدني‏ ‏اهتمام .
سألت قاسم‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ..‏ فتراءت ليفتراابتسم‏ ‏ابتسامة‏ ‏ساخرة ، شعرت‏ ‏فيها‏ ‏بسعادة نصر لا يضارعها غير فتوحات ‏صلاح‏ ‏الدين‏ ‏الأيوبي وقال‏ :-
‏- ‏ألا تعرفينه‏ .. ‏إنه‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏.‏
‏- ‏من ‏أين جاء ومن الذي‏ ‏فعل‏ ‏به‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏؟‏!‏
‏كانت‏ ‏أصوات‏ ‏الضرب‏ ‏وصرخات‏ ‏الأطفال‏ , ‏تزداد‏ ‏وتقوي‏ ‏شيئا‏ ‏فشيئا‏ , ‏وتدنو مني لدرجة أنها ‏شدت‏ ‏انتباهي‏ ، رأيت ‏حجرات‏ ‏كبيرة‏ ‏مشيدة من‏ ‏الزجاج‏ ‏الملون بالأحمر ، بين أركانها يزحف ‏أطفال‏ علي وجوهم ‏يصرخون‏ , ‏بوجوه‏ مستطيلة ‏متجمدة‏ ‏مثلجة‏ , ‏يقف‏ ‏بينهم ‏ ‏رجال‏ ‏حوامل‏ ‏مثل‏ ‏زوج‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة ، يرضعون هؤلاء الأطفال من أثدائهم ‏.‏
في‏ ‏هذه اللحظة ثار في‏ صدري‏ إحساس بالتضخم ‏وتصلبت الحلمات‏ ‏وتدفق‏ ‏اللبن‏ ‏فيهما , ‏وتسرب‏ داخل‏ ‏جسدي‏ ‏رعشة‏ ‏وغيرة‏ ‏شديدة‏ ، وحنين‏ ‏جارف‏ ‏لإرضاع ابنتي‏ التي لم يمر علي ولادتها شهرين‏ , دفعني‏ ‏هذا الشعور‏ ‏بالهروب‏ ‏وترك‏ هذه ‏المدينة‏ قبل الوصول إلي ساحة الاحتفال ، ‏حاولت التملص‏ ‏من‏ ‏يد‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ التي ماتت علي كفي.
‏ساعتها‏ ‏لم‏ ‏أجد‏‏ ‏سبيلا‏ ‏للخلاص‏ , ‏واصلت‏ ‏السعي معهما‏ ‏إلي‏ ‏ساحة‏ ‏الاحتفال‏ ‏، وبعد فترة بلغنا منصة الاحتفال‏ ‏، من مكاني نظرت ناحية ‏الساحة‏ ‏التي تقبع أسفلنا ، وجدتها لا تختلف‏ ‏كثيرا‏ في شكلها ‏عن‏ ‏المكان‏ ‏الذي‏ ‏وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏فيه‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ , ‏صحراء‏ .. ‏ضباب‏ .. ‏أصوات‏‏.‏
في الصف الأول من الحاضرين المكبلين ، ‏كان‏ ‏يجلس‏‏ ‏علي‏ ‏أرضية‏ ‏الساحة‏ , ومنهم‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏ .. ‏العقاد‏ ..‏ ‏مما‏ ‏عرفني‏ ‏بهم‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ .. كان يلفهم ضباب كثيف ، ‏وفي خلفية هؤلاء أناس كثيرون ولكن الجو لم يتح لي رؤيتهم ‏، فالرؤية أمامنا لا تتسع ‏إلا لمعرفة تفاصيل ‏متر‏ ‏واحد‏ , ‏وذلك‏ ‏من شدة‏ ‏العتمة‏.‏
‏وقفت‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ متوجهة ناحية المنصة ، رحبت ‏بوجودي‏ ‏داخل ‏المدينة‏ ، استعرضت الحلم الذي دفع المرأة الجديدة لتشييد هذه المدينة ، بعدها ‏‏انتهت كلمتها وجاءت لتجلس بجواري .
صعد ‏قاسم‏ ‏أمين‏ المنصة ، تناول خطبة ‏ ‏قريبة الشبه بما كتبته في‏ ‏خطبتي‏ , بقيت‏ ‏منجذبة لكلماته ‏حتى‏ ‏وقع‏ ‏ما لا في‏ ‏الحسبان‏ , ‏دوت‏ ‏انفجارات‏ ‏شديدة‏ وصاخبة ‏في‏ ‏نهاية‏ ‏الساحة‏ , نظرت تجاه قاسم أمين ورئيس الجمعية ، فلم أجدهما يعبئان بما يجري فتوهمت بأنه لا يوجد خطر ‏, ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏علو‏ ‏الأصوات‏ , ‏دب بداخلي رعب وشعرت‏ ‏بأن‏ ‏أحداثا‏ ‏مهولة‏ ‏تقع دون ‏أن‏ ‏أراها ‏من‏ ‏شدة‏ ‏العتمة‏.‏
‏ ‏انتهي‏ ‏‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏من‏ ‏قراءة ‏خطبته وجلس‏ ‏بجواري‏ ‏، وجاء‏ ‏دوري في إلقاء‏ ‏ ‏كلمتي‏ , ‏سندت يدي‏ ‏علي‏ ‏المنصة‏ , ‏رتبت‏ ‏أوراقي‏ ‏ورحت أضع خطوطا حمراء أسفل الفقرات ، ‏ ‏بدأت‏ ‏في‏ ‏إلقاء‏ ‏الخطبة‏ , ‏ولم‏ ‏أكد‏ ‏انتهي‏ ‏من‏ ‏الورقة‏ ‏الأولي‏ , ‏حتى‏ ‏لمحت‏ ‏الهلع‏ ‏والخوف‏ ‏علي‏ ‏وجوه‏ ‏الحارسات‏ , ‏اللاتي‏ ‏أخذن‏ ‏يجرين‏ ‏بطريقة عشوائية ‏داخل‏ ‏الساحة‏ , تطاردهم‏‏ ‏أصوات‏ ‏إنفجارات‏ ‏التي أخذت في الزحف‏ ‏ناحية المنصة‏ .. ‏شعرت بأن صوتي بدأ يتلاشى ، توقفت‏ ‏عن الكلام‏ ‏من‏ ‏شدة‏ ‏الخوف.. ‏نظرت‏ ‏ناحية‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏ورئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏فلم‏ ‏أجدهما‏ ‏في‏ ‏مكانهما‏ ، ‏فقد‏ ‏هربا‏ ‏وتركاني‏ ‏وحدي‏ .. ‏‏رأيت‏ ‏المكبلين‏ ‏قد‏ كسروا‏ ‏قيودهم‏ ‏واتجهوا‏ ‏ناحيتي‏ .. ‏وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏وحيدة‏ ‏أمام‏ ‏هذا‏ ‏الحشد‏ ‏الهائل‏ ‏من‏ ‏الغاضبين‏.
بدأت‏ ‏أنزوي‏ ‏وأشعر بالاختناق‏ .. ‏ولكن‏ ‏كل‏ ‏الأيادي‏ ‏امتد‏ت ناحية‏ ‏عنقي‏ ..‏ ‏كاد‏ت أنفاسي ‏تتقطع ..‏ ‏تتوقف‏ .. ‏فصرخت‏ ‏بأعلى‏ ‏صوت‏ .. ‏وظللت‏ ‏أصرخ‏ .. ‏وأصرخ‏.. ‏ومن‏ ‏يومها‏ ‏وأنا‏ ‏أصرخ‏.‏
قال‏ ‏لي‏ ‏زوجي‏ ‏بأنني‏ ‏كنت‏ ‏نائمة‏ ، و‏استيقظت‏ ‏وأنا‏ ‏أصرخ‏ ، وهرولت مسرعة ناحية ‏حجرة‏ ‏مكتبي‏ , ‏فوجدت‏ ‏الدوسيه‏ ‏الأحمر‏ ‏موضوعا‏ ‏فوق‏ ‏المكتب‏ ‏فمزقت‏ ‏الأوراق‏ ‏الموجودة‏ ‏به‏.‏
ولكني‏ ‏لا‏ ‏أتذكر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏شيئا‏ .. ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏حكايتي‏ ‏هذه‏ ‏حلما‏ ‏كما‏ ‏يقولون‏ .. ‏أو‏ ‏واقعا‏ ‏كما‏ ‏أعتقد‏.‏.. بعد انتهائي من رواية قصتي .. هل أنا مجنونة كما تتدعي النساء .. أم ست العاملين كما يراني الرجال بعد تمزيق الخطبة .