الأحد، 13 يوليو 2008

جريدة المساء تعرض كتاب : مدينة الحريم "


جريدة المساء لاصادرة من مؤسسة التحرير ، تنشر عن مدينة الحريم

الاثنين، 7 يوليو 2008

ربط العروسة



بصابونه ..
وزجاجة زيت ..
ترتشي العفاريت ..
وينتحر السر الباتع

مع انسكاب الأعوام تناسي زوار قريتنا أسمها الحقيقي (العلما)،وتعلقت بأذهانهم (المربوطة) .. وصفة المربوطة لها حكاية ، تلوكونها النسوة في جلسات النميمة أمام عتبات البيوت ، ويمضغها الرجال وهم يتسامرون فوق أكوام القش أو وهم ممددين في المصلية المنحوتة في حافة الترعة.. ولأنها غريبة فهي عالقة بأدمغتهم ، تؤنس أوقات فراغهم الكثيرة ، يضيف إليها كل مدع للمعرفة بما وسعه خياله ، حتى باتت أسطورة تتميز بها القرية دونا عن قري المحافظة بأكملها..
اسم المربوطة لا تتعلق بعملية ربط العريس ليلة الدخلة ، لأنها تحولت بالعادة إلى شئ مألوف ، وبالعادة أيضا أصبحت أخبار العرسان المربوطين تتطاير مع أنفاس الجوزة على الغرز الصغيرة ، تغلغلت في كل قرى وعذب وكفور مصر بصورة تنافس فيها حمي البقر.. بدون مقدمات يجيء العريس يوم الصباحية ، يتمسح في حوائط الدار ، وبصوت متحشرج .. متهدج.. فيه رعشة الانكسار .. يطلب إحضار الشيخ عبد المغيث .. وبدون أدني فكاكه يدرك السامع بأن العريس مربوط ، وفي حاجة لسر الشيخ الباتع .. ليتم المراد ويرفع رأسه وسط الأهل ..
أما حكاية ( ربط العروسة ) فهي المرة الأولي والأخيرة التي حدثت في قريتنا ، حدثت بالضبط بعد خمسة أيام من ليلة الدخلة ، بعد أن تباطأ عارف أفندي في إعطاء أهل العروسة المراد ، والمراد في قريتنا ينهيه العريس في العادة ليلة الدخلة بمساعدة أم العروسة وبعض قريباتها ..
ولأن عارف أفندي يختلف عن بقية رجال القرية ، فهو المتنور الوحيد فيها ، ومقامه يناطح مكانة حضرة العمدة بشحمه ولحمه ، لذا أطاعه أهل العروسة ، ونزلوا على رغبته رغم غرابتها أمام أهل القرية ، ورغبته كانت تحوم حول أخذه " المراد" بينه وبين عروسه على مهل.
ولكن الأيام الخمسة فرت بسرعة ، والمهل طال وامتد ، وتحولت القرية بقدرة قادر إلى طبلة كبيرة جوفاء ، كالتي يعوي بها " إبراهيم الطبال " أثناء تشييع الجنازات ، فتخرج منها أصوات لا تختلف عن نحيب النسوة .. وتنوع عوائها بين الهمز واللمز ، والإشاعات في قريتنا تشبه النمل عندما ينطلق من جحره في رحلة البحث عن طعام .. وقائد سرب النمل في القرية كانت زوجة عم العروس ، التي أخذت تبعثر الإشاعات بين نسوة القرية ، لتتشف في أم العروس وأبوها ..
لم يبرح أهل العروس دارهم ، وأهملوا الغيط .. والبهائم .. لأن عيون أهل القرية تتكلم في صمت عن "المراد " الذي تأخر .. وللصبر حدود .. ويجب فك عارف أفندي إذا كان مربوطا.
المشكلة أن عارف والشيخ عبد المغيث لا يطيقان بعضهما البعض ،لذا يحتاج عرض الأمر على عارف لنفر يتميز بالجرأة والقوة .
فعارف أفندي رغم صغر سنه ، إلا أنه والحق يقال يمثل مقصدا لأهل قريتنا في وقت الشدائد ، لا ترد له مشورة أو رأي .. وكيف ترد وهو الوحيد عندنا الذي يحفظ القرآن ، ويلقنه لأطفال القرية في الكتاب الذي ورثه عن أبيه ، وفوق ذلك كان يعظ الناس في المصلية الكبيرة الموجودة على جسر الترعة ، ويوعيهم من سحر ونصب الشيخ عبد المغيث ... ومع ذلك كان شابا حدقا يعرف كيف يجارى نساء القرية همزهن وكلامهن المعسول ، وأبدا جلبابه الأبيض وطاقيته الشبيكة المستوردة من السعودية مكويتين تحت المرتبة ، وجزمته تلمع دونا عن شباب القرية .
على النقيض كان الشيخ عبد المغيث ، الذي يسكن في عزبة مجاورة للقرية .. رجل مزواج .. يكتب ويقرأ بالعافية .. ورث سره الباتع في كتابة العملات وفك المربوط عن والده الذي أقام له مقاما كبيرا بعد موته ، وكان يري في عارف أفندي العدو الوحيد له.
بصراحة أن عارف أفندي لم يكن يتوقع في حياته أن يجلس مع الشيخ عبد المغيث في مكان واحد ، لا أن يكون حل مشكلته في يده ..
ولكن ما باليد حيله ، فأمام إلحاح أهل العروسة ، وما كان يراه على شفاة أهل القرية ، وافق على الحل لعلها تكون قشة الإنقاذ .
جاء الشيخ عبد المغيث لدار عارف أفندي التي تقع وسط القرية ، بجوار الجرن الكبير الذين يقيمون فيه المناسبات ويدرسون محصول الأرز به ، وسط ذهول ودهشة أهل القرية ، وهم يرونه مارقا داخل حواري وأذقة القرية منتصبا بقامته القصيرة فوق حمار لا يختلف عن سحنته كثيرا ، يرمي عليهم السلام في مسكنه مصطنعة وبسمة باهتة ..
- أتفضل يا شيخ أشرب الشاي
- لحد هنا وجاي .. أصل عارف أفندي صعبان على .. ربنا يفك رباطه على يدي ..
بعد أن لف الشيخ القرية كلها ، وصل إلى دار عارف أفندي الجالس في وجوم وشرود .. بأي عين سيقابل أهل القرية بعد ذلك .. وكيف يحذرهم من سحر الشيخ .
ووسط مندرة الكنب الزاهية بألوان الفرح ، وصور الجد والأب المعلقة على الجدار دارت التهديدات .. والتشنجات ولكن أمام رجوات وتوسلات أم العروسة توقف عارف أفندي على الاستهانة بالسر الباتع للشيخ ، وتوقفت الأصوات وبدأ الشيخ في عمله ..
- أسمك بالكامل يا عارف أفندي
- عارف ..
وأنبري الشيخ بعد معرفته للاسم في عد الأحرف التي يتكون منها ، ليخرج من سيالة جلبابه المطلية بطفح قلم أحمر كتيب قديم ورثه عن أبوه .. والجلابية لو رآها أحد لأقسم بأن الشيخ لم يتزوج من قبل ، لا أن يكون على ذمته أربع نساء ، آخرهن في سن بناته ، رماها نصيبها الأسود في طريقه ، عندما ذهبت له ليكتب لها عمل باتع تحافظ به على زوجها الأول ، ولكن عينيه زاغت ، فطلقها بسحرة وتزوجها هو ..
أخذ الشيخ في دعك عينيه عددا من المرات حتى تزول عنهما السحابة البيضاء.. وبدأ يقرأ في الكتيب ذي الورق الأصفر المتآكل من كثرة مرور الزمن عليه ويدى الشيخ المتسختين .. وبنبرة المنتصر مد رأسه وقال..
- أنت سليم يا عارف أفندي ومفيش حاجة فيك ..
- دي حاجة أنا عارفها .. وميت مرة قولتها لحماتي وهي مش مصدقة ..
لم يكد الشيخ عبد المغيث ينتهي من كلامه حتى شعرت أم العروس ، بكوم من السباخ يكبس فوق صدرها ، حتى أخذ يضيق .. ويتمزق .. ويبحث عن نسمة هواء ليلتقطها من داخل المندرة التي فرغت تماما من الهواء ..
فكلام الشيخ لا يعني إلا شئ واحد ، نفس الشيء الذي تؤكده زوجة عم العروس داخل القرية ، وهو الذي طالما كانت تخيف أبنتها منه باستمرار ..
وللأنصاف كان عارف أفندي يخاف منه هو الآخر ، ويعرف أن شرف البنت في القرية زي عود الكبريت ، لذلك أصر على عقد خطوبته وكتب كتابه في يوم واحد حتى تصبح حلاله .
وكاد يغمي على أم العروسه ، وتخيلت عروق الخشب في السقف تلامس ضلوعها البارزة .. لولا أن تفتق ذهن الشيخ في آخر لحظة وأنار سره الباتع ، وبنظرة كلها افتخار وثقة ..
- مالكو يا جماعة .. لسه هنشوف العروسة .
انعقدت الوجوه والألسنة بعد أن علتها الدهشة ، فمن العادة أن يربط العريس ، لا أن تكون العروس هي المربوطة .
شعر عارف أفندي وعروسه براحة شديدة ، فكلام الشيخ لا يعني إلا قشة يمكنهما التعلق والنجاة بها .. وكأن جسدهما الغرقان بالعرق من الصدمة ، قد هدأ بعد أن قذفهما شخص على غرة داخل الترعة .
لم تدم دهشتهم كثيرا ، فقد سارع الشيخ بفتح الصفحة ، بعد أن دعك عينيه مرة أخري .. وفي رعب واضح قال ..
- يا ساتر يارب .. أستر يا ستار ..
وفي خوف واضح ولهفة سألت أم العروس ..
- جري إيه يا شيخ وقعت قلبي .
- دا معمول لبنتك عمل على راس قرموط .. يا ساتر دا معقود كذا عقدة ، بأن تظل مليسة مثل الحائط ، لحد جوزها ما يزهق منها ويطلقها وهي مازالت بكرا ..
- أنا عارفة أم قلب أسود اللي عملت العمل .. مفيش غيرها.. ربنا يقعدوا في بناتها .
- وأيه الحل دلوقتي يا شيخ .. يا بركه .
- اللي يعمله ربنا هيكون يا حاجة يا كريمة .
خرج عارف أفندي يبحث في دكاكين القرية عن زجاجة خل وزيت زيتون طلبهما الشيخ منه قبل دخوله لحجرة النوم مع العروس وأمها .
كان كل شئ في الحجرة يكتسي بلون أحمر .. لون المصباح الكهربائي المتدلي من السقف.. السرير النحاسي .. الدولاب .. الحوائط .. صلعة الشيخ.
حتى جلباب العروس الشفاف الأبيض ، الذي كان يظهر تفاصيل جسدها البارزة ، فهي للحقيقة رغم سمرتها كانت تثير كوامن الرجال بأنوثتها الطاغية ، ومن كثرة أنوثتها تمناها كبرات القرية ، ولكن القلب وما يريد لم توافق إلا على عارف أفندي بمقامه العالي .
شد الشيخ شعر وأذن العروس ، قبل أن يأمر أمها بأن تدير ظهرها العريض لهما وتشيح بوجهها ناحية الباب ، وهي تدوم بإصبعها داخل طبق ملأه الشيخ بالماء وعدد من نقط كانت في قطارة عيون معه ..
تدوم وهي تقول ..
- يا للي ربطوها فكوها .. يا للي ربطوها فكوها .. يا للي ربطوها..
أما العروس فكان مستلقية تحت ملاءة السرير ، بينما الشيخ يجلس على حافته وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة والعرق يتساقط منه ، الأمر الذي أدخل الخوف والرعب في قلب العروس وأمها ، التي كان تحاول اختلاس النظر إليهما ، فينهرها الشيخ باستمرار ويهددها بأنها ستكون السبب في عدم تطفيش العفاريت من جسد بنتها ..
أما العروسة فقد ماتت في جلدها بعد أن رأت العرق يخترق طريقه من صلعة الشيخ إلى وجهه المليء بالتجاعيد ، وعيناه اللتان تضيقان في إصرار وتحد ..وتضاعف خوفها حينما كانت يده تمر فوق جسدها اللين الطري وتقترب من بطنها .
استمر هذا الوضع فترة حتى عاد عارف أفندي بالزيت والخل إلى المندرة التي يجلس فيها حماه .. بعدها خرج الشيخ ..
- احمدوا ربكم كان العمل معقود بطريقة لا يمكن لحد فكه .
- يعني كده خلاص يا شيخ .
- والله يا حج ربنا راضي على بنتك .. وهيرزقها بالعيال .
خلط الشيخ عبد المغيث الخل بالزيت ، الذي ستشربه العروسة بالليل قبل نومها ، ووضع فيها ورقة مكتوبة بطريق لا يمكن معرفة حروفها إلا عن طريق العفاريت ، ووضع ورقة أخري في زيت أكل حتى يستعمله العروسان عندما يكونان معا فوق السرير..
وقبل أن يختفي الشيخ بما حمله من صابون وأكل وأموال ، نظر إلى عارف أفندي بنظرة القائد المنتصر ، وهو يعطيه حجابا يعلقه في رقبته وقال له :
- لولا سري الباتع لكنت طلقت زوجتك ، وأنت يا حجة متخافيش .. دم البكارة هيرتفع في صدر بنتك وهتحبل على طول ..
رمي الشيخ تلك الكلمات وأنصرف وسط دعوات حما وحماة عارف أفندي ، وضحكات عارف أفندي وعروسه التي شعرت بالاطمئنان ..
في حقيقة الأمر كانت فرحة عارف أفندي أكثر من الدنيا كلها ..
فلأول مرة سيأكل .. ويشرب .. ويداعب زوجته ، بعد خمسة أيام مرت كأنها خمسة قرون ، كان عارف فيهم وعروسه يضربون أخماسا في أسداس وهم يبحثون عن حل لمشكلتهما ، ولكن أخيرا أراحهما الشيخ بسرة الباتع، ووسط هذه الفرحة قام عارف وعروسه برمي الخل والزيت والاحجبة مع سرها الباتع..
وسط فرحة بخيبة القائد ذي السر الباتع ، وفشله في معرفة أن العروس حامل في شهرها الثاني .






قصة " رغبة إمرأة ميتة " في جريدة الجمهورية

قصة " رغبة إمرأة ميتة " في جريدة الجمهورية

مجموعة رغبة إمرأة ميتة



خبر عن كتاب " رغبة إمرأة ميتة "

إنتحار عريس



حينما تموت المعاني ..
وتغلق العقول ..
تتوه الرجولة .

كل من ساقته نخوته من أهل القرية ، وقصد المستوصف القديم ، الذي انهارت أجزاء منه بفضل رشح مياه المصرف القريب ، يمصمص الشفاه ويلطم الخدود .. الجميع يؤكد بأن "حليم أفندي " حاول الانتحار ، وفضل أن يروح بقدميه إلى الجحيم بدلا من الهمس واللمز عليه ، ويقولون عليه بالفم الملآن أنه طلع مش راجل ليلة دخلته..
كانت عجلات الترولي التي تآكلت بفضل الصدأ ، تصطك داخل الطرقة المحيطة بالمستوصف من الخارج فتصدر أنينا ، ومن فوقها حليم يرتج ويكاد يهوى ، كلما اصطدمت بإحدى البلاطات المخلوعة.
- يا غالي .. يا طيب .. يا
رددتها عروس ( حليم ) وهي تضرب صدرها البارز بيديها ، بينما غطت الدموع وجهها الأبيض المائل إلى الحمرة بطبقة من الكحل..
وضعوا حليم بقامته الطويلة فوق سرير من الحديد ، ممدد على مرتبة ممزقة برزت أحشائها ، حاملة معها بقايا من القش والأقمشة القديمة ، تدحرج من شدقيه سيل من ماء لزج سميك في شكل زبد ورغوي على جانبي فمه ، ليستقر فوق بقايا ملاءة سرير لا يتضح لها لون من كثرة المطهرات والدم الناشف فوقها..
كان كل ذلك كفيل بأن ينزع من عيني ( مسعد التمرجي ) النوم ، ويدفعه إلى الإفاقة ووقف سيمفونية الشخير المعتاد عليها يوميا ، المتصاعد من بين شعيرات ( شنبه) المتدلي بداخل فمه ، والذي لولاه لتاه بقامته القصيرة ووجهه الصغير وسط أطفال القرية ، يبدأها منذ وصوله إلى المستشفي حتى الانتهاء من وردية العمل..
في ثوان معدودة كان مسعد قد تسلق درجات السلم ، رغم انهيار أجزاء منه وكرشه المتدلي الذي يكاد يلامس الأرض ، وصل إلى الحجرة التي يرقد بها الطبيب فوق سطح المستشفي ، صدمت كلمة (انتحار) الطبيب .. ليس من باب أنه فعل محرم أو غريب على أسماع أهل القرية ، ولكن أول ما خطر على باله هو أنبوبة الأكسجين الوحيدة بالمستشفي الفارغة ، وأدوات الإسعافات الأولية البدائية ، التي يخاطب مديرية الصحة منذ فترة لإمداده بغيرها ولكن لا حية لمن يجيب ..
كان الخبر مثل ( جاز السولار ) الذي دفع المحرك للعمل ، فقد دبت الحياة في جسد المستشفي البالي ، بعد أن تخيل أهل القرية أنها ماتت وشيعت جنازتها منذ زمن بعيد..
كان ( حليم أفندي ) يرقد في هذا الوقت داخل حجرة لطخت حوائطها بدم ناشف وآثار مطهرات صفراء وبقايا ناموس قتله مسعد .. حجرة فقيرة لا أساس فيها أو معدات طبية ، كل ما فيها سرير من الحديد ، ومكتب متهالك قديم من عمر وجود مبني المستشفي ، سطحه مليء بإمضاءات الأطباء السابقين ، وبجواره كرسي يجلس عليه الطبيب بقلق وعناية ،مخافة تعرضه للسقوط في أي لحظة ، أرجله الخلفية مكسورة ، تم تسكينها ببقايا من جريد النخل ، وفي نهاية الحجرة يقف وابور جاز أعرج بعد أن فقد أحد أرجله ، يئن تحت إناء أبيض من الصفيح ، مملوء لنصفة بماء عطن ، غاطس بداخله مقص وسرنجة من الزجاج وإبر خياطة الجروح إبتاعهم الطبيب على حسابه.. كانت حجرة وحيدة للكشف على المرضي وتتحول كثيرا لحجرة عمليات ، لطهارة وختان أولاد القرية والكفور المجاورة.
نسوة القرية افترشن أرضية الحوش المواجه لتلك الحجرة ، في جلابيب كاسية بلون القار وترابيع سوداء ملفوفة فوق الرأس ، تتدلي أطرافها حتي الحواجب ذات الشعر المبعثر..تحولت النميمة إلى أزيز يلف المكان ، ويمتد ليصل إلى أذني حليم فاقد الوعي ، توحي له بأنه استحق الجحيم وهذه الأصوات هي قرقعات اللهب المستعر التي استحقها على فعلته.
لحظات قليلة وكان الطبيب قد اخترق هذا الحصار ووصل إلى الحجرة ، في عجالة سحق بعض الحبوب داخل كوب ماء من البلاستيك، أقحمها داخل فم حليم حتي تقأ وقلب ما في أمعائه من سم..
بعدها عاد إلى حليم وعي جزئي ، تراءت له أمه بابتسامتها الباهتة.. وعلامات القلق تعتصر قسمات وجهها الممصوص حينما كان يداهمه أى المرض ، وقتها كان النوم يجافيها لأيام ، وتغفو وهي جالسة القرفصاء بجواره ، حانية جسدها النحيل للأمام ، الذي يئن من حمل الجلابيب التي ترتديها اتقاءا لبرودة الشتاء ..
من وقت لآخر كانت الغيبوبة تستغرق حليم ، وكلما أفاق منها يعتريه شعور بأنه يري نفس الحلم الذي يراوده من سنين فائته ، منذ كان طفلا ، وفي كل مرة يفيق قبل أن ينتهي من تفاصيله ، كل ما يتذكره صورة والدته وهي تستند بيديها على باب الدار ، واللون الأصفر الذي خلفه المرض يعتصر وجهها ، تنادي عليه بصوت أبح ، وهو يمارس لعبه الحجلة مع أخواته البنات من أبيه :-
- تعالي يا كبدي أصل زوجة أبيك المفترية تضربك ..
بينما صورة زوجة الأب تتضح له بتفاصيل أدق ، وهي تتعمد المجيء ناحية دارهم ، وتتهم والدته بالباطل.. ثم تتدلل على والده ، الذي يسارع إلى دارهم لإقامة البرهان أمامها بأنه سيد الرجال وهي تاج رأسه ، يدفع والدته على أرضية دهليز الدار ويركلها بقدميه.. فتبكي .. وتصرخ .. وتشتكي من الظلم... ورغم هذا القربان الذي يقدم عليه الأب لنيل رضاء زوجته الجديدة ، إلا أن لسانها اللاذع كان يصيبه ، فتتهمه وبصوت يشبه فحيح الثعابين:-
- لو أنت راجل كانت خافت.. ومش تسلط ابنها الحيلة على بناتك ..
سرت فجأة في جسد حليم قشعريرة شديدة ، جعلته ينتفض من فوق السرير ، كاد يمزق خرطوم الجليكوز المتدلي من يده، التي سارع " مسعد " بنخر لحمه بحقنها ، تحت وطأة قبضته الممسكة كأنها يد فأس ..
بعدها توجه مسعد إلى أهل القرية يستعطفهم بضرورة التفرق من أمام المستشفي ، لأن حليم سوف يمكث أربع وعشرين ساعة ، تحت ملاحظته شخصيا وبمساعدة الدكتور..استجاب أغلبية الناس ومن تبقي من الأهل ظل يفترش حوش المستشفي .
- دى ناس جاحدة يا دكتور .. أنت متعرفهمش علشان غريب .. اسألني أنا ..
قالها مسعد وهو يوارب باب الثرثرة مع الطبيب مشيرا بيده تجاه ( حليم أفندي ) ، وهو جالس القرفصاء على حصيرة مصنوع من البوص ، أكلت الرطوبة أطرافها ، في حين ألقى الطبيب بجسده الطويل فوق المكتب..
- أبوه كان رجل محترما .. لحد ما تزوج الثانية .. صغيرة يا دكتور فجننته
كانت تفاصيل وجه مسعد تتبدل وتتشكل لكي تناسب الحالة التي يقدمها ، وكأنه ممثل مسرحي متمرس ، يتقمص عددا من الأدوار المختلفة .. كانت تتبدل كلما اختلفت الرواية التي يلوكها للطبيب عن حياة ( حليم ) وأهله ..
- أصل أنا كنت بأروح أديله حقن أعصاب
ارتفعت من مسعد ضحكة غير مناسبة ..
- أصل زوجته كانت صغيرة وهو مش قادر .. الله يسامحني
لذا كان والد " حليم " يتحمل تسلط لسانها أمام خلق الله :-
- أنت منفوخ على إيه .. ولا فاكر نفسك راجل .. أنا بس اللي عارفة المستور ..
في أحيان عديدة كان صوت مسعد يشوبه نوع من التبجيل والتقدير ، حينما يتذكر أفضال الرجل وعطفه في السر على فقراء أهل القرية ، وبناء المسجد الوحيد بالقرية.. ظل مسعد يرغي وكأنه يسمع نفسه ، لأن الذي كان يسترعي انتباه الطبيب ما يبدر عن حليم من حركات ، كانت إفاقته تمنحه علامات الرضا والاطمئنان ، علامة بأنه سوف ينجوا من الموت.
فتح حليم جفونه بصعوبة ، حدق بنظره على بقع الأسمنت التي تساقطت من سقف الحجرة.. بقع توحي بالكآبة ، أعادت له بعضا من تفاصيل الحلم الذي لا يكتمل ، تفاصيل صورة أمه وهي تتألم وتتوجع من شدة المرض حتى ماتت ، وتركته وحيدا يجابه لدغات لسان زوجة أبيه .. كلما هم وبادر ليحكي لوالده عن معاملتها الفظة وطرده من الدار كلما جاء ( ابن أبو سليم ) في غيابه كانت تقول له :-
- أنت مش بتزهق من الشكوى لأبوك .. مش لما يكون راجل تقوله ..
تلك التفاصيل أدخلته في نوبة تشنج .. دفعت الدكتور إلى السعي ناحيته ..
- عاوز أموت .. الموت أحسن لي
راح حليم في غيبوبة مرة ثانية
- للدرجة دي يا مسعد مش عاوز يعيش ..
نفخ مسعد وزفر ، وخبط كفا على كف ...
- أصل دول يا دكتور محسوش بطعم الحرمان مثلنا ...
وسط غيظه أسر مسعد للدكتور بسر الفضيحة التي تعرض لها والده.. هو سر معلوم عند أهل القرية ، ولكن من العيب أن يتداولوه بالعلن .. والسر بدأ حينما بيت النية لزوجته ، بعد أن لمح في عيون أهل القرية ما كان يردده له ابنه حليم ، وفي يوم أوحي لها بأنه راحل إلى المدينة لشراء المؤن لمتجره ،دس نفسه في قطعة أرض ملاصقة لداره ، حتى اطمأنت الزوجة وفتحت باب الدار لتسريب حليم ، بعدها بدقائق تسلل ابن سويلم وكان العيب والسر .. لم يمكث الرجل فترة طويلة ، فسرعان ما سقط من طوله ومات.. ودارت الزوجة في القرية تلوك وتثرثر بأن زوجها لم يكن رجلا ..
توقف مسعد عن الكلام ، حينما أنتفض الطبيب من مقعده المتهالك ، وراح ناحية حليم الذي فتح مقلتيه بصعوبة.. حاول مداعبته ولكنه لم يستجب لأن تفاصيل حلمه كانت مسيطرة على عالمه.. ولكن هذه المرة كانت صور والده المعلقة في مخيلته ، صور يدغدغ فيها ويدلع زوجته واضعا أغلبية ماله بيدها .. صور سهره بجوارها الليالي إذا شعرت بالمرض أو التعب المصطنع .. في حين كانت تعاني أمه عناء المرض والوحدة .
- ليه بس عاوز تنقذني .. أنا عاوز أموت ..
- يا راجل دا أنت لسه عريس والأمل أمامك
- عريس ..
انفرجت أسارير حليم وهو يرددها.. سرعان ما استغرقته تفاصيل أحلامه ، فراح يستعرض صور أول مرة رأى فيها عروسه.. كان صوتها ورقتها الواضحة مفاجأة لأنها تشبه بالتمام والكمال والدته ، دفعه هذا للتقليل من فترة الخطوبة ، خاصة أن أمها رحبت بالعريس "اللقطة" ، الرجل الوحيد بعد أبوه ووريث أطيانه ومحلاته ، ولكن كل ما يقلقه لسانها السليط ، بادر بالتخلص منها فتكفل بكل لوازم الزواج..
ليلة الدخلة شعر بإحساس جارف للنوم على صدرها ، أخذته النشوة التي كان يشعر بها حينما كانت تطوقه والدته ، يومها سرى في جسده دفء فقده بعد وفاة أمه .. ولكن في صباح اليوم التالي جاءت الأم يسبقها لسانها .. سألت عن العرض والشرف .. وظلت فترة أسبوع تسأل ولا أحد يجيب .. حتى أخذت تضغط عليه من أجل الذهاب لطبيب معالج .. ساعتها علم لماذا كانت زوجة أبيه تعايره بأنه مش راجل .. وأخذت الكوابيس تلاحقه وتضغط على صدره .. كوابيس تزداد كلما طال لسان حماته ونمت ونعت حظ إبنتها لدي نساء القرية .. ساعتها شعر بأن موت أبوه كان رحمة .. فشرب السم..





الأحد، 6 يوليو 2008

أخبارالسياحة تحتفي بمدينة الحريم لأحمد خيري


يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني॥ويمكن أن نستفاد منه

في عددها الأخير أحتفت مجلة أخبار السياحة بكتاب " مدينة الحريم " للكاتب الصحفي أحمد خيري

الثلاثاء، 1 يوليو 2008

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مجموعة رغبة إمرأة ميتة

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مدينة الحريم في جريدة الأهرام

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مدينة الحريم بالإنجليزية في الأهرام ويكلي

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": قصة ضياع العمر بجريدة الوفد

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": جائزة الصحافة العربية

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال"

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال"

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني