
حينما تموت المعاني ..
وتغلق العقول ..
تتوه الرجولة .
كل من ساقته نخوته من أهل القرية ، وقصد المستوصف القديم ، الذي انهارت أجزاء منه بفضل رشح مياه المصرف القريب ، يمصمص الشفاه ويلطم الخدود .. الجميع يؤكد بأن "حليم أفندي " حاول الانتحار ، وفضل أن يروح بقدميه إلى الجحيم بدلا من الهمس واللمز عليه ، ويقولون عليه بالفم الملآن أنه طلع مش راجل ليلة دخلته..
كانت عجلات الترولي التي تآكلت بفضل الصدأ ، تصطك داخل الطرقة المحيطة بالمستوصف من الخارج فتصدر أنينا ، ومن فوقها حليم يرتج ويكاد يهوى ، كلما اصطدمت بإحدى البلاطات المخلوعة.
- يا غالي .. يا طيب .. يا
رددتها عروس ( حليم ) وهي تضرب صدرها البارز بيديها ، بينما غطت الدموع وجهها الأبيض المائل إلى الحمرة بطبقة من الكحل..
وضعوا حليم بقامته الطويلة فوق سرير من الحديد ، ممدد على مرتبة ممزقة برزت أحشائها ، حاملة معها بقايا من القش والأقمشة القديمة ، تدحرج من شدقيه سيل من ماء لزج سميك في شكل زبد ورغوي على جانبي فمه ، ليستقر فوق بقايا ملاءة سرير لا يتضح لها لون من كثرة المطهرات والدم الناشف فوقها..
كان كل ذلك كفيل بأن ينزع من عيني ( مسعد التمرجي ) النوم ، ويدفعه إلى الإفاقة ووقف سيمفونية الشخير المعتاد عليها يوميا ، المتصاعد من بين شعيرات ( شنبه) المتدلي بداخل فمه ، والذي لولاه لتاه بقامته القصيرة ووجهه الصغير وسط أطفال القرية ، يبدأها منذ وصوله إلى المستشفي حتى الانتهاء من وردية العمل..
في ثوان معدودة كان مسعد قد تسلق درجات السلم ، رغم انهيار أجزاء منه وكرشه المتدلي الذي يكاد يلامس الأرض ، وصل إلى الحجرة التي يرقد بها الطبيب فوق سطح المستشفي ، صدمت كلمة (انتحار) الطبيب .. ليس من باب أنه فعل محرم أو غريب على أسماع أهل القرية ، ولكن أول ما خطر على باله هو أنبوبة الأكسجين الوحيدة بالمستشفي الفارغة ، وأدوات الإسعافات الأولية البدائية ، التي يخاطب مديرية الصحة منذ فترة لإمداده بغيرها ولكن لا حية لمن يجيب ..
كان الخبر مثل ( جاز السولار ) الذي دفع المحرك للعمل ، فقد دبت الحياة في جسد المستشفي البالي ، بعد أن تخيل أهل القرية أنها ماتت وشيعت جنازتها منذ زمن بعيد..
كان ( حليم أفندي ) يرقد في هذا الوقت داخل حجرة لطخت حوائطها بدم ناشف وآثار مطهرات صفراء وبقايا ناموس قتله مسعد .. حجرة فقيرة لا أساس فيها أو معدات طبية ، كل ما فيها سرير من الحديد ، ومكتب متهالك قديم من عمر وجود مبني المستشفي ، سطحه مليء بإمضاءات الأطباء السابقين ، وبجواره كرسي يجلس عليه الطبيب بقلق وعناية ،مخافة تعرضه للسقوط في أي لحظة ، أرجله الخلفية مكسورة ، تم تسكينها ببقايا من جريد النخل ، وفي نهاية الحجرة يقف وابور جاز أعرج بعد أن فقد أحد أرجله ، يئن تحت إناء أبيض من الصفيح ، مملوء لنصفة بماء عطن ، غاطس بداخله مقص وسرنجة من الزجاج وإبر خياطة الجروح إبتاعهم الطبيب على حسابه.. كانت حجرة وحيدة للكشف على المرضي وتتحول كثيرا لحجرة عمليات ، لطهارة وختان أولاد القرية والكفور المجاورة.
نسوة القرية افترشن أرضية الحوش المواجه لتلك الحجرة ، في جلابيب كاسية بلون القار وترابيع سوداء ملفوفة فوق الرأس ، تتدلي أطرافها حتي الحواجب ذات الشعر المبعثر..تحولت النميمة إلى أزيز يلف المكان ، ويمتد ليصل إلى أذني حليم فاقد الوعي ، توحي له بأنه استحق الجحيم وهذه الأصوات هي قرقعات اللهب المستعر التي استحقها على فعلته.
لحظات قليلة وكان الطبيب قد اخترق هذا الحصار ووصل إلى الحجرة ، في عجالة سحق بعض الحبوب داخل كوب ماء من البلاستيك، أقحمها داخل فم حليم حتي تقأ وقلب ما في أمعائه من سم..
بعدها عاد إلى حليم وعي جزئي ، تراءت له أمه بابتسامتها الباهتة.. وعلامات القلق تعتصر قسمات وجهها الممصوص حينما كان يداهمه أى المرض ، وقتها كان النوم يجافيها لأيام ، وتغفو وهي جالسة القرفصاء بجواره ، حانية جسدها النحيل للأمام ، الذي يئن من حمل الجلابيب التي ترتديها اتقاءا لبرودة الشتاء ..
من وقت لآخر كانت الغيبوبة تستغرق حليم ، وكلما أفاق منها يعتريه شعور بأنه يري نفس الحلم الذي يراوده من سنين فائته ، منذ كان طفلا ، وفي كل مرة يفيق قبل أن ينتهي من تفاصيله ، كل ما يتذكره صورة والدته وهي تستند بيديها على باب الدار ، واللون الأصفر الذي خلفه المرض يعتصر وجهها ، تنادي عليه بصوت أبح ، وهو يمارس لعبه الحجلة مع أخواته البنات من أبيه :-
- تعالي يا كبدي أصل زوجة أبيك المفترية تضربك ..
بينما صورة زوجة الأب تتضح له بتفاصيل أدق ، وهي تتعمد المجيء ناحية دارهم ، وتتهم والدته بالباطل.. ثم تتدلل على والده ، الذي يسارع إلى دارهم لإقامة البرهان أمامها بأنه سيد الرجال وهي تاج رأسه ، يدفع والدته على أرضية دهليز الدار ويركلها بقدميه.. فتبكي .. وتصرخ .. وتشتكي من الظلم... ورغم هذا القربان الذي يقدم عليه الأب لنيل رضاء زوجته الجديدة ، إلا أن لسانها اللاذع كان يصيبه ، فتتهمه وبصوت يشبه فحيح الثعابين:-
- لو أنت راجل كانت خافت.. ومش تسلط ابنها الحيلة على بناتك ..
سرت فجأة في جسد حليم قشعريرة شديدة ، جعلته ينتفض من فوق السرير ، كاد يمزق خرطوم الجليكوز المتدلي من يده، التي سارع " مسعد " بنخر لحمه بحقنها ، تحت وطأة قبضته الممسكة كأنها يد فأس ..
بعدها توجه مسعد إلى أهل القرية يستعطفهم بضرورة التفرق من أمام المستشفي ، لأن حليم سوف يمكث أربع وعشرين ساعة ، تحت ملاحظته شخصيا وبمساعدة الدكتور..استجاب أغلبية الناس ومن تبقي من الأهل ظل يفترش حوش المستشفي .
- دى ناس جاحدة يا دكتور .. أنت متعرفهمش علشان غريب .. اسألني أنا ..
قالها مسعد وهو يوارب باب الثرثرة مع الطبيب مشيرا بيده تجاه ( حليم أفندي ) ، وهو جالس القرفصاء على حصيرة مصنوع من البوص ، أكلت الرطوبة أطرافها ، في حين ألقى الطبيب بجسده الطويل فوق المكتب..
- أبوه كان رجل محترما .. لحد ما تزوج الثانية .. صغيرة يا دكتور فجننته
كانت تفاصيل وجه مسعد تتبدل وتتشكل لكي تناسب الحالة التي يقدمها ، وكأنه ممثل مسرحي متمرس ، يتقمص عددا من الأدوار المختلفة .. كانت تتبدل كلما اختلفت الرواية التي يلوكها للطبيب عن حياة ( حليم ) وأهله ..
- أصل أنا كنت بأروح أديله حقن أعصاب
ارتفعت من مسعد ضحكة غير مناسبة ..
- أصل زوجته كانت صغيرة وهو مش قادر .. الله يسامحني
لذا كان والد " حليم " يتحمل تسلط لسانها أمام خلق الله :-
- أنت منفوخ على إيه .. ولا فاكر نفسك راجل .. أنا بس اللي عارفة المستور ..
في أحيان عديدة كان صوت مسعد يشوبه نوع من التبجيل والتقدير ، حينما يتذكر أفضال الرجل وعطفه في السر على فقراء أهل القرية ، وبناء المسجد الوحيد بالقرية.. ظل مسعد يرغي وكأنه يسمع نفسه ، لأن الذي كان يسترعي انتباه الطبيب ما يبدر عن حليم من حركات ، كانت إفاقته تمنحه علامات الرضا والاطمئنان ، علامة بأنه سوف ينجوا من الموت.
فتح حليم جفونه بصعوبة ، حدق بنظره على بقع الأسمنت التي تساقطت من سقف الحجرة.. بقع توحي بالكآبة ، أعادت له بعضا من تفاصيل الحلم الذي لا يكتمل ، تفاصيل صورة أمه وهي تتألم وتتوجع من شدة المرض حتى ماتت ، وتركته وحيدا يجابه لدغات لسان زوجة أبيه .. كلما هم وبادر ليحكي لوالده عن معاملتها الفظة وطرده من الدار كلما جاء ( ابن أبو سليم ) في غيابه كانت تقول له :-
- أنت مش بتزهق من الشكوى لأبوك .. مش لما يكون راجل تقوله ..
تلك التفاصيل أدخلته في نوبة تشنج .. دفعت الدكتور إلى السعي ناحيته ..
- عاوز أموت .. الموت أحسن لي
راح حليم في غيبوبة مرة ثانية
- للدرجة دي يا مسعد مش عاوز يعيش ..
نفخ مسعد وزفر ، وخبط كفا على كف ...
- أصل دول يا دكتور محسوش بطعم الحرمان مثلنا ...
وسط غيظه أسر مسعد للدكتور بسر الفضيحة التي تعرض لها والده.. هو سر معلوم عند أهل القرية ، ولكن من العيب أن يتداولوه بالعلن .. والسر بدأ حينما بيت النية لزوجته ، بعد أن لمح في عيون أهل القرية ما كان يردده له ابنه حليم ، وفي يوم أوحي لها بأنه راحل إلى المدينة لشراء المؤن لمتجره ،دس نفسه في قطعة أرض ملاصقة لداره ، حتى اطمأنت الزوجة وفتحت باب الدار لتسريب حليم ، بعدها بدقائق تسلل ابن سويلم وكان العيب والسر .. لم يمكث الرجل فترة طويلة ، فسرعان ما سقط من طوله ومات.. ودارت الزوجة في القرية تلوك وتثرثر بأن زوجها لم يكن رجلا ..
توقف مسعد عن الكلام ، حينما أنتفض الطبيب من مقعده المتهالك ، وراح ناحية حليم الذي فتح مقلتيه بصعوبة.. حاول مداعبته ولكنه لم يستجب لأن تفاصيل حلمه كانت مسيطرة على عالمه.. ولكن هذه المرة كانت صور والده المعلقة في مخيلته ، صور يدغدغ فيها ويدلع زوجته واضعا أغلبية ماله بيدها .. صور سهره بجوارها الليالي إذا شعرت بالمرض أو التعب المصطنع .. في حين كانت تعاني أمه عناء المرض والوحدة .
- ليه بس عاوز تنقذني .. أنا عاوز أموت ..
- يا راجل دا أنت لسه عريس والأمل أمامك
- عريس ..
انفرجت أسارير حليم وهو يرددها.. سرعان ما استغرقته تفاصيل أحلامه ، فراح يستعرض صور أول مرة رأى فيها عروسه.. كان صوتها ورقتها الواضحة مفاجأة لأنها تشبه بالتمام والكمال والدته ، دفعه هذا للتقليل من فترة الخطوبة ، خاصة أن أمها رحبت بالعريس "اللقطة" ، الرجل الوحيد بعد أبوه ووريث أطيانه ومحلاته ، ولكن كل ما يقلقه لسانها السليط ، بادر بالتخلص منها فتكفل بكل لوازم الزواج..
ليلة الدخلة شعر بإحساس جارف للنوم على صدرها ، أخذته النشوة التي كان يشعر بها حينما كانت تطوقه والدته ، يومها سرى في جسده دفء فقده بعد وفاة أمه .. ولكن في صباح اليوم التالي جاءت الأم يسبقها لسانها .. سألت عن العرض والشرف .. وظلت فترة أسبوع تسأل ولا أحد يجيب .. حتى أخذت تضغط عليه من أجل الذهاب لطبيب معالج .. ساعتها علم لماذا كانت زوجة أبيه تعايره بأنه مش راجل .. وأخذت الكوابيس تلاحقه وتضغط على صدره .. كوابيس تزداد كلما طال لسان حماته ونمت ونعت حظ إبنتها لدي نساء القرية .. ساعتها شعر بأن موت أبوه كان رحمة .. فشرب السم..
0 التعليقات:
إرسال تعليق