الأحد، 30 مارس 2008

أطفال الليل



أثناء هرولته داخل حواري وأزقة مدينة الزقازيق ، تعرض " محروس " ابن الثالثة عشر ، للانكفاء علي يديه عدة مرات ، وسط برك من المياه العكرة ، برك خلفتها الأمطار داخل الحفر .. تمزقت جلبابه المتهالكة من عند ركبتيه ، ودفعه تسرب المياه من الثقوب المنتشرة في حذائه الضخم القديم إلي خلعها والجري حافيا.
بعد أن فك " محروس " من الورشة التي يعمل بها ، آثر السير بسرعة عبر الأزقة والحواري الضيقة ، رغم العتمة الحالكة التي تضرب ديارها ، قصدها للوصول إلي محطة العربات التي تقل أهل قريته.. فضلها عن السير في الشوارع الرئيسية ذات الإضاءة الضعيفة الباهتة الخاوية .. فالأزقة بيوتها متلاصقة .. وأصحابها يسعلون باستمرار وحينما يجافيهم النوم تصدر من حجرات النوم همهمات وسخسخات نسوتهم تؤنس الوحشة..
طوال هذا اليوم ودموع " محروس " تنساب وتنهمر بصورة متقطعة .. منذ آذان الفجر .. منذ أن لكزه أبوه بيده الغليظة التي مات جلد كفها وتشقق من أثر عمله في الحقول .. لكزه بشدة بعد أن عثر عليه بصعوبة وسط أكوام اللحم المبعثرة فوق أرضية الدهليز :-
- أصحي يا محروس هنتأخر علي الأوسطي عبد الجبار...
ولكن محروس لم يعره أدني اهتمام ، واستمر يغط في نوم عميق ، وسط رائحة العرق النفاذة التي تتصاعد من البطاطين العسكرية المتهالكة التي يتدثرون بها .. وببطء شديد التفت ناحية أمه ، ولف ذراعيه حول رقبتها النحيفة ودفن وجهه النحيل المصفر في صدرها..
بعد اليأس من إيقاظه بالطرق السلمية .. لكزه أبوه ولكن هذه المرة بقدميه اللتين تتقاربان في الشبه مع خف الجمل .. ثم أنحني والتقطه فتدلي بين يديه مثل شوال القمح ، حتى وصل به إلي مكان " الزير " المستقر في نهاية الدهليز ، أمسك من فوق فوهته المصنوعة من خشب التوت " كوز " قديم مصنوع من الصفيح ، عبأه بكمية من الماء التي جمدها برد الشتاء القارس.. ظل يصبها فوق رأسه حتى أفاق واسترد وعيه ..
خرج محروس معلقا في يد أبوه إلي الطريق الزراعي ، واستمرا في السير علي أقدامهما مسافة تزيد عن كيلو مترين ، حتى لاحت لهما من بعيد " المعدية" التي تقلهما من وسط عزبة المسلمية إلي ضفة النهر المقابلة التي تمر بها العربات.
بعد ساعتين بالتمام والكمال استقر بهما الحال أمام ورشة الأسطي " عبد الجبار " الميكانيكي ، وهو رجل معروف عنه الغلظة في التعامل مع صبيانه ، وهذا الكلام ليس خفيا علي محروس وأبوه .. فالأخ الأكبر كان يعمل لديه قبل ذهابه لتأدية خدمة الجيش ، كان يحكي ويلوك أمام أبوه وأخوته عن الضرب الذي يناله من الأسطي .
تنحي أبوه بالأسطي علي جانب ، ودارت بينهما مشاحنات عديدة وهمهمات مرتفعة حصل في أثرها علي حفنة من الجنيهات ، لم ينس قبل تركه المدينة ، أن أعاد علي محروس النصائح ، وخلف له بعض القروش القليلة التي تكفي بالكاد شراء رغيف عيش وطعمية ، وأجرة العربة التي سوف تقله إلي داره في المساء ..
- والنبي ربنا يخليك لأولادك.. أتركه بدري حتى يلحق عربة .
لأن عبد الجبار غليظ القلب ، لم ينفذ رجاء أبوه ، وأطلق سراحه بعد آذان العشاء ، بعد أن أغلق الورشة..
بعد فترة من التعثر والوقوع داخل برك المياه ، فوجىء محروس بفراغ المحطة المحدوفة في بقعة أرض معزولة خارج المدينة من أي نفر أو عربة .
اجتاحته موجة من الخوف المصحوبة برعدة برد شديدة انتفضت علي أثرها أطرافه وجسده النحيف.. بحث عن مكان يقيه دفقات البرد القارس .. فوجد حائط مبني من البوص المتهالك المجدول في إهمال ، يغطي أجزاء متفرقة منه طبقة من الطين وعيدان القش .. حائط مقهى منصوبة عند مدخل المحطة وسقفه المتهاوي ينز بداخله مياه المطر..
من شدة الخوف تناسى محروس لسعة الهواء التي تخترق رقع جلبابه ، وأصابع قدميه المنمنمة التي تجمدت من رطوبة الأرض ، وأخذت رأسه الصغيرة المحلوقة بالماكينة تجوب في كل الاتجاهات ، تتحرك بشكل سريع ومندفع وكأنها عجلة عربة مثبتة فوق رمان بلي ، وتحول بكاءه إلي نحيب مسموع مصحوبا بدموع حفرت لنفسها مجري داخل طبقة الزيوت والشحم التي غطت أغلبية وجهه.
كان يتلفت في ذعر متمنيا أن تقع عيناه علي أي نفر حدفه القدر ليؤنس طريقه ، ولكن طول الانتظار خيب أمله .. كافة الطرقات علي مرمي بصره ، خاوية صامتة حتى الديار القريبة غط أصحابها في نوم عميق أسفل البطاطين.. ولم يتبق له أنيس إلا الكلاب الضالة المتكورة علي نفسها محتمية بجوار الحوائط.
بعد فترة انتظار طويلة لم تمر فيها عربة أو يسمع لها صوت ، فعربات القرية يسمع صوتها من بعيد لكونها قديمة ، وجوانبها الصفيح متساقطة ، مخصصة لنقل أهل القرية إلي المدينة طوال أيام الأسبوع ، ما عدا صباح يومي السبت والأربعاء ، فتتحول إلي عربات نقل ينزع أصحابها أغطية البلاستك التي تحيط بصندوقها الخلفي والكراسي الحديدية المخصصة لجلوس الركاب .. يزيلونها حتى تتسع لنقل البهائم والحيوانات من القرية والكفور المجاورة إلي الأسواق القريبة..
تذكر محروس نصيحة أبوه بعد أن سمع زمجرت احدي الكلاب الضالة، قبل أن يهم ويتجه إليه ..
- خليك يا محروس واد ناصح وراجل .
- الزاي يا أبويا
- لو أخرك الأسطي بالليل ومفيش عربية .. أمشي لحد مطحن الدقيق الموجود عن بداية الطريق الزراعي وهناك تركب أي شيء .
أنطلق "محروس" من مكمنه قبل أن ينهشه الكلب ، وقصد الطريق الرئيسي المنحدر تجاه المطحن ... علي الناحية الشرقية من هذا الطريق يمر شريط سكك حديدية متجها للقاهرة ، نبتت علي حافته غابات من الحشائش الشيطانية وعيدان من الغاب .. وفي الناحية المقابلة للطريق تقبع ترعة صغيرة ، ذات ماء راكد حولها أهل المنطقة إلي مصرف يلقون به مخلفات منازلهم .. كان الصبي يتحرك مسرعا في خط ملتوي وسط الطريق المغطي بالحفر وبرك المياه ، حتى ينجو من الشرر المتساقط من أسلاك الكهرباء بفضل رزاز الأمطار.
أثناء جريه لم تتوقف رأسه عن الدوران، ولا أذنيه عن إرهاف السمع لهدير الأصوات التي تطارده .. وهي أصوات يصعب عليه تصنيفها بسهولة فهي متداخلة ومختلطة تصدرها أسلاك الكهرباء .. وعيدان الغاب ، أصوات يقطعها من وقت لآخر صمت موحش ونواح كلاب ضالة .
لمح محروس من بعيد نار مشتعلة ، وفي ضوئها الباهت يظهر مبني أبيض ، عرف منها أنه لا بد وقد اقترب من مطحن الغلال ، فهو المبني الوحيد في ذلك الطريق الذي وصفه له والده .. لمح الغفير أمين بجوار النار ، وقتها فقط خفت دقات قلبه المرتفعة ، والتي خيل إليه بأن الدنيا تسمعها..
- يا ابني أنت ماشي لوحدك ليه
- الأسطي عبد الجبار هو اللي أخرني.
- أنت كمان بتشتغل..
- ومين يساعد أبوي وأمي
اقترب محروس بجلبابه المشبع لنصفها الأسفل بطين الشوارع .. اقترب من النار .. ارتعش جسده النحيل .. استمر يثرثر عن الأسطي وأبوه وأخوه الكبير الذي كان يعمل عند الأسطي ودخل الجيش .. والغفير عن بطولاته في القبض علي قطاع الطرق ومقاومة العفاريت .. بين الحين والآخر كان "أمين "الغفير الممدد علي حزم من قش الأرز المفروشة علي الأرض ، يغفوا بجوار النار تاركا محروس بمفرده يتدفأ.. ثم يستيقظ مستكملا نفس الثرثرة وكأنهما لا يزالان يتحاوران.
لحسن الحظ لاحت لهما من بعيد أضواء باهتة لعربة نقل تتجه ناحيتهما ..
- شبرا يا اسطي .. ينوبك ثواب تاخد الواد الغلبان ده .
- أنا رايح لعزبة المسلمية بس .. لأن معاي مريض كان عند الدكتور ..
- مسلمية مسلمية .. بس أوعي ينام منك وتنساه .
في ثواني معدودة كان محروس قد قفز وتكور علي نفسه داخل الصندوق الخلفي للعربة المفروش بقش الأرز .. قش مشبع بماء مطر وروث بهائم ، حاول أن يحتمي به من البرد القارس ، الذي يخترق عظامه في سرعة رصاص بندقية الخفير ..
غط محروس في نوم عميق ، حتى وصلت العربة إلي عزبة المسلمية ، أدرك نفر كان مصاحبا للمريض ، بأن هناك طفل يرقد في خلفية العربة ، ولولا ذلك لظل محروس مستقرا في صندوقها حتى الصباح..
بصوت جهوري أيقظ السائق "محروس" ، وتركه وحيدا وسط ظلام دامس وبرك من الطين ، غطت ساقيه حتى الركبتين.
بيوت العزبة الطينية تحولت أمامه إلي جحور تغوص تحت الأرض ، لا يميزها عن أكوام السباخ الملقاة أمامها إلا خروج شخير أهلها المتشابه في نغمته مع نقيق الضفادع ونهيق الحمير ..
عند بداية الطريق الملتوي المؤدي إلي قريته توقف "محروس" عن المشي ، فمن يجسر أن يتخط موضعه ويفقد حياته ، منذ مولده وهو يسمع من أمه وجدته أساطير العفاريت وحكايات الأطفال الذين يتم اختطافهم من أسرهم .. والذين يقوم باختطافهم أصحاب ماكينات مياه الري الجديدة ، بغرض نحرهم فوق الماكينة حتى تعمل..والعفاريت لم تبرح مخيلته منذ خروجه من المدينة.
وقف محروس بلا حراك والدموع تنهمر .. حتى جاءه الفرج جاء مصحوبا مع صوت أجش يصدره رجل عجوز .. ينهر حماره ليهم بالمشي داخل العزبة .. جري "محروس " بسرعة ناحية الصوت ، ولم يعبأ ببرك الطين التي كان ينزلق فيها .. اقترب من مصدر الصوت وعرف فيه الحاج أمين شيخ البلد ..
- أية يا واد يا محروس اللي م أخرك لحد كدا .
- الأوسطي عبد الجبار .. تركني بعد صلاة العشا .
- هو أخوك الكبير لسة في الجيش .
- ربنا يسهل يا عمي الحاج .. علشان أرجع مدرستي ..
استماتت يد محروس علي الحبل المتدلي من " البردعة " التي يجلس عليها الرجل فوق الحمار ، سرى الأمان في جسده بمجرد أن رأي شيخ البلد ، ومنحه ذلك دفيء أعظم من شعور الطفل الراقد أمامه علي الحمار ، والذي يلفه الحاج أمين بعناية في عباءة من الصوف الثقيل ..
أخذ محروس يحكي والرجل يسمع .. يحكي نفس الحديث الذي حكاه مع خفير المطحن ، وعن مأساته من أجل العودة إلي داره..
وصل محروس إلي داره ، حاولت والدته إطعامه وجبة العشاء ، ولكنه من التعب أنكفأ دون أن يتناولها ، وسط أكوام اللحم المبعثرة علي الأرض ..
وفي صلاة الفجر كان كوز المياه يدلي ما فيه من مياه متجمدة فوق رأس محروس حتى يستيقظ .

حواء ودمار المجتمع



حالة من الجنون.. من فقد الاتزان.. من السعي نحو تدمير الذات والمجتمع ، نعيشها في ظل هجمة شرسة من قبل قلة من " حواء وأعوانها " ، لاقتناص حقيقة الوجود لآدم المنوط به تأديتها لإنجاح الحياة وسيرورتها.. لن يغفو التاريخ عن ذكر هذه السقطة ، التي تناست فيها قلة من حواء دورها الحقيقي سعيا وراء وهم مزاحمة الرجل ، والخاسر الأوحد هو المجتمع الذي اجتاحته ظواهرغريبة.
زين لها هذا الوهم حفنة من الأعوان لديهم قناعة بأن القانون الذي يحكم الحياة الآن ، هو لفظ الأفكار ووضعها موضع الأقدام ، وإنكار الرأي الصحيح والجبن عن إعلانه في سبيل الركض وراء المنصب والألقاب الزائفة.
ظهر هذا جليا في العديد من قصص " مدينة الحريم " ، التي نشرت عدد منها في الصحف وبعض المواقع الأدبية علي شبكة الإنترنت ، وتحول بعضها إلي " سهرات " إذاعية ، وقتها هاجمتني حفنة من مدعيات الأدب بالتهجم علي شخصي ، اعتقادا منهم خاطيء بأن ذلك يمكن أن يتستر علي الحقائق ، التي برهنت بأن قلة من حواء الآن خرجن عن القانون الذي خلقن له ، وأصبحن يتحزبن في اتجاهين لكل منهما رموزه ، الاتجاه الأول أضحت الفنانات والراقصات رمزا له ، والاتجاه الثاني اتخذن من مرتديات النظارات السميكة حبيسات المكاتب والجمعيات نبراسا.. والخاسر في النهاية المجتمع ..