الاثنين، 13 أكتوبر 2008

مقال المتناقضات لطارق حجي


بقلم الكاتب أحمد خيري

وجود مثقفين ذوي الوجوه المتعددة يمتطون مقدمة الصفوف أمر طبيعي عبر العصور .. ومدعى النضال من أجل الحريات المصابين بإنفصام في الشخصية أمر تطفحه كتب التراث.. حيث تجدهم يتفاخرون بمساندتهم لنظريات قبول الآخر ومقابلة الفكر بالفكر، وفجأة يستيقظون من نومهم حاملين سيفا من خشب منتصبين في ميدان عام، يوصمون من لا يتفق مع آرائهم بالألفاظ النابية ويلقون بهم في المصحات النفسية.
لقد أثار مقال الكاتب طارق حجي المنشور بجريدة الأهرام يوم 11 سبتمبر تحت عنوان " تأملات في دفتر الواقع ".. العديد من المتناقضات التي تلغى كل فقرة مضمون ما يسبقها.
بدأها بإجهاد قريحته بتوزيع الألقاب الدونية لكل من يختلف مع آرائه .. لذا أصاب من يعجب بحزب الله بدانة محملة بالدونية والبدائية الفكريتان وسيكولوجية الأقنان، ولم يجهد ديمقراطيته بتفنيد حججهم ومزاعمهم .. وحدف المفكرين الذين لا يحفلون بنجاح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الافراج بالمفاوضات فقط عن قرابة مائتي فلسطيني ، بأنهم يتسمون بالدونية والبدائية الفكريتان وسيكولوجية الأقنان.. وزاد الشطط بوصم المسئول السوري الذي صرح بأن سوريا ماكانت لتقبل أن تعطي إسرائيل رجلها إيلي كوهين حتي لو كانت مرتفعات الجولان هي المقابل تجسيدا لدونية وبدائية الفكر وسيكولوجية الأقنان ..
إن ما نراه هو نتاج أزمة ثقافية عربية أفرخت مفكرين يبدعون بحناجرهم وتصل انفعالاتهم إلى درجة إلصاق التهم بأصحاب الآراء المخالفة لهم، لأن كل همهم التناحر للفوز بصدارة المصاطب المنمقة للمؤتمرات والندوات، مستخدمين نظريات بالية تخدر عقول وشعور البسطاء، وتحقق لهم مصالحهم الذاتية، وهى مصطلحات باتت من بقايا عصور العنصرية، ولكي يتم تضخيمها في العقول الجاهلة يربطها بنظريات فكرية فاسدة عفى عليها الزمن، لا يروجها غير الكيان الصهيوني وأعوانه لخلق أعداء وهميين، مثل نظريات الماضوية وصدام الحضارات ووجود الآخرالمدمر..
إنتقل مفكرنا الليبرالي إلى القيود التي تكبل الثقافة، وذكر منها ثلاثة جاء في صدارتها رجال الدين الغارقين في الرجعية والماضوية والتخلف .. ونلاحظ بأن الكاتب دأب على التأكيد على أنه يعادي الماضي بكل معطياته وتوجهاته، لذا فهو يوصمه بالتخلف، رغم أنه لم يقدم تبريرا موضوعيا بأن كل الماضي متختلف، فلا يصلح إيمانه بالحداثة والعلمانية تبريرا لحلفانه للطلاق المطلق لكل الماضي، ومحاولة إجتثاث جذوره، لأن الماضي هو هويتنا الواجب المحافظة عليها، وأخذ الصالح منه لبناء مستقبل أفضل، والمحافظة قدر المستطاع على منطقة " المابين " التي تفصل بين الماضي الجيد والمستقبل المغاير، بما يجعلنا لا نقع في براثن الضد الجامد الذي يحاول إعادة عقارب الساعة للوراء، ويعلن انتصار الأصولية..

أما الفقرة التالية توضح حالة الإنفصام والتنافر التي أصابت الكاتب، فهو يصف البعض بأنهم علماء ومثقفين وهذه مكتسبات تتميز بمعطياتها تمنح حاملها الحصانة العقلية، ولكنه يأبى ذلك ويسارع في نفس الفقرة ويرفع السيف ليسحب منهم الصفة العقلية ويحدفهم في أروقة المصحات النفسية، طبعا بعد إجراء اختبارات لهم على يد المفكر طارق حجي، ويزداد الطين بله بأن يؤكد في الفقرة التالية بأنه يقف بالمرصاد لمن يتصفون بضيق الصدر من النقد ويحجرون على الرأي الآخر مهما كانت دونيته.
يا سيادة الكاتب قضية مساواة المرأة منتهية منذ آلاف السنين، أكدتها الأديان السماوية، وكل من يخونه ضميره أو بدائيته، يمكن أن ندلل له من النصوص الدينية الصريحة بدلا من قذفهم في المصحات النفسية التي ازدحمت بروادها وتبحث هي عن مكان ..
وفي الفقرة الأخيرة نلاحظ بأن الكاتب يوصم العقلية العربية بأنها أسطورية، وله في ذلك كل الحق، والاختلاف معه في التعميم، لأن العقلية الأسطورية نتاج لموروث بشري، ومازالت حتي الآن المحرك الرئيسي لمقدرات كيانات مختلفة وأبرزها الكيان الصهيوني، الذي يحاول بمختلف الطرق تطبيق الأساطير والخرافات التي تعشش بعقليته، عبر إلتهام أراضي الدول المسالمة التي حدفها القدر لتقع في بؤرة أساطيره .. وهو كيان يراه الكاتب وغيره من الدول التي تتشدق بالحريات والديمقراطية، بأنه كيان ديمقراطي وعلماني وتقدمي ولم أر أحد منهم يصفه مرة واحدة بالدونية والبدائية الفكريتان وسيكولوجية الأقنان .


الأحد، 13 يوليو 2008

جريدة المساء تعرض كتاب : مدينة الحريم "


جريدة المساء لاصادرة من مؤسسة التحرير ، تنشر عن مدينة الحريم

الاثنين، 7 يوليو 2008

ربط العروسة



بصابونه ..
وزجاجة زيت ..
ترتشي العفاريت ..
وينتحر السر الباتع

مع انسكاب الأعوام تناسي زوار قريتنا أسمها الحقيقي (العلما)،وتعلقت بأذهانهم (المربوطة) .. وصفة المربوطة لها حكاية ، تلوكونها النسوة في جلسات النميمة أمام عتبات البيوت ، ويمضغها الرجال وهم يتسامرون فوق أكوام القش أو وهم ممددين في المصلية المنحوتة في حافة الترعة.. ولأنها غريبة فهي عالقة بأدمغتهم ، تؤنس أوقات فراغهم الكثيرة ، يضيف إليها كل مدع للمعرفة بما وسعه خياله ، حتى باتت أسطورة تتميز بها القرية دونا عن قري المحافظة بأكملها..
اسم المربوطة لا تتعلق بعملية ربط العريس ليلة الدخلة ، لأنها تحولت بالعادة إلى شئ مألوف ، وبالعادة أيضا أصبحت أخبار العرسان المربوطين تتطاير مع أنفاس الجوزة على الغرز الصغيرة ، تغلغلت في كل قرى وعذب وكفور مصر بصورة تنافس فيها حمي البقر.. بدون مقدمات يجيء العريس يوم الصباحية ، يتمسح في حوائط الدار ، وبصوت متحشرج .. متهدج.. فيه رعشة الانكسار .. يطلب إحضار الشيخ عبد المغيث .. وبدون أدني فكاكه يدرك السامع بأن العريس مربوط ، وفي حاجة لسر الشيخ الباتع .. ليتم المراد ويرفع رأسه وسط الأهل ..
أما حكاية ( ربط العروسة ) فهي المرة الأولي والأخيرة التي حدثت في قريتنا ، حدثت بالضبط بعد خمسة أيام من ليلة الدخلة ، بعد أن تباطأ عارف أفندي في إعطاء أهل العروسة المراد ، والمراد في قريتنا ينهيه العريس في العادة ليلة الدخلة بمساعدة أم العروسة وبعض قريباتها ..
ولأن عارف أفندي يختلف عن بقية رجال القرية ، فهو المتنور الوحيد فيها ، ومقامه يناطح مكانة حضرة العمدة بشحمه ولحمه ، لذا أطاعه أهل العروسة ، ونزلوا على رغبته رغم غرابتها أمام أهل القرية ، ورغبته كانت تحوم حول أخذه " المراد" بينه وبين عروسه على مهل.
ولكن الأيام الخمسة فرت بسرعة ، والمهل طال وامتد ، وتحولت القرية بقدرة قادر إلى طبلة كبيرة جوفاء ، كالتي يعوي بها " إبراهيم الطبال " أثناء تشييع الجنازات ، فتخرج منها أصوات لا تختلف عن نحيب النسوة .. وتنوع عوائها بين الهمز واللمز ، والإشاعات في قريتنا تشبه النمل عندما ينطلق من جحره في رحلة البحث عن طعام .. وقائد سرب النمل في القرية كانت زوجة عم العروس ، التي أخذت تبعثر الإشاعات بين نسوة القرية ، لتتشف في أم العروس وأبوها ..
لم يبرح أهل العروس دارهم ، وأهملوا الغيط .. والبهائم .. لأن عيون أهل القرية تتكلم في صمت عن "المراد " الذي تأخر .. وللصبر حدود .. ويجب فك عارف أفندي إذا كان مربوطا.
المشكلة أن عارف والشيخ عبد المغيث لا يطيقان بعضهما البعض ،لذا يحتاج عرض الأمر على عارف لنفر يتميز بالجرأة والقوة .
فعارف أفندي رغم صغر سنه ، إلا أنه والحق يقال يمثل مقصدا لأهل قريتنا في وقت الشدائد ، لا ترد له مشورة أو رأي .. وكيف ترد وهو الوحيد عندنا الذي يحفظ القرآن ، ويلقنه لأطفال القرية في الكتاب الذي ورثه عن أبيه ، وفوق ذلك كان يعظ الناس في المصلية الكبيرة الموجودة على جسر الترعة ، ويوعيهم من سحر ونصب الشيخ عبد المغيث ... ومع ذلك كان شابا حدقا يعرف كيف يجارى نساء القرية همزهن وكلامهن المعسول ، وأبدا جلبابه الأبيض وطاقيته الشبيكة المستوردة من السعودية مكويتين تحت المرتبة ، وجزمته تلمع دونا عن شباب القرية .
على النقيض كان الشيخ عبد المغيث ، الذي يسكن في عزبة مجاورة للقرية .. رجل مزواج .. يكتب ويقرأ بالعافية .. ورث سره الباتع في كتابة العملات وفك المربوط عن والده الذي أقام له مقاما كبيرا بعد موته ، وكان يري في عارف أفندي العدو الوحيد له.
بصراحة أن عارف أفندي لم يكن يتوقع في حياته أن يجلس مع الشيخ عبد المغيث في مكان واحد ، لا أن يكون حل مشكلته في يده ..
ولكن ما باليد حيله ، فأمام إلحاح أهل العروسة ، وما كان يراه على شفاة أهل القرية ، وافق على الحل لعلها تكون قشة الإنقاذ .
جاء الشيخ عبد المغيث لدار عارف أفندي التي تقع وسط القرية ، بجوار الجرن الكبير الذين يقيمون فيه المناسبات ويدرسون محصول الأرز به ، وسط ذهول ودهشة أهل القرية ، وهم يرونه مارقا داخل حواري وأذقة القرية منتصبا بقامته القصيرة فوق حمار لا يختلف عن سحنته كثيرا ، يرمي عليهم السلام في مسكنه مصطنعة وبسمة باهتة ..
- أتفضل يا شيخ أشرب الشاي
- لحد هنا وجاي .. أصل عارف أفندي صعبان على .. ربنا يفك رباطه على يدي ..
بعد أن لف الشيخ القرية كلها ، وصل إلى دار عارف أفندي الجالس في وجوم وشرود .. بأي عين سيقابل أهل القرية بعد ذلك .. وكيف يحذرهم من سحر الشيخ .
ووسط مندرة الكنب الزاهية بألوان الفرح ، وصور الجد والأب المعلقة على الجدار دارت التهديدات .. والتشنجات ولكن أمام رجوات وتوسلات أم العروسة توقف عارف أفندي على الاستهانة بالسر الباتع للشيخ ، وتوقفت الأصوات وبدأ الشيخ في عمله ..
- أسمك بالكامل يا عارف أفندي
- عارف ..
وأنبري الشيخ بعد معرفته للاسم في عد الأحرف التي يتكون منها ، ليخرج من سيالة جلبابه المطلية بطفح قلم أحمر كتيب قديم ورثه عن أبوه .. والجلابية لو رآها أحد لأقسم بأن الشيخ لم يتزوج من قبل ، لا أن يكون على ذمته أربع نساء ، آخرهن في سن بناته ، رماها نصيبها الأسود في طريقه ، عندما ذهبت له ليكتب لها عمل باتع تحافظ به على زوجها الأول ، ولكن عينيه زاغت ، فطلقها بسحرة وتزوجها هو ..
أخذ الشيخ في دعك عينيه عددا من المرات حتى تزول عنهما السحابة البيضاء.. وبدأ يقرأ في الكتيب ذي الورق الأصفر المتآكل من كثرة مرور الزمن عليه ويدى الشيخ المتسختين .. وبنبرة المنتصر مد رأسه وقال..
- أنت سليم يا عارف أفندي ومفيش حاجة فيك ..
- دي حاجة أنا عارفها .. وميت مرة قولتها لحماتي وهي مش مصدقة ..
لم يكد الشيخ عبد المغيث ينتهي من كلامه حتى شعرت أم العروس ، بكوم من السباخ يكبس فوق صدرها ، حتى أخذ يضيق .. ويتمزق .. ويبحث عن نسمة هواء ليلتقطها من داخل المندرة التي فرغت تماما من الهواء ..
فكلام الشيخ لا يعني إلا شئ واحد ، نفس الشيء الذي تؤكده زوجة عم العروس داخل القرية ، وهو الذي طالما كانت تخيف أبنتها منه باستمرار ..
وللأنصاف كان عارف أفندي يخاف منه هو الآخر ، ويعرف أن شرف البنت في القرية زي عود الكبريت ، لذلك أصر على عقد خطوبته وكتب كتابه في يوم واحد حتى تصبح حلاله .
وكاد يغمي على أم العروسه ، وتخيلت عروق الخشب في السقف تلامس ضلوعها البارزة .. لولا أن تفتق ذهن الشيخ في آخر لحظة وأنار سره الباتع ، وبنظرة كلها افتخار وثقة ..
- مالكو يا جماعة .. لسه هنشوف العروسة .
انعقدت الوجوه والألسنة بعد أن علتها الدهشة ، فمن العادة أن يربط العريس ، لا أن تكون العروس هي المربوطة .
شعر عارف أفندي وعروسه براحة شديدة ، فكلام الشيخ لا يعني إلا قشة يمكنهما التعلق والنجاة بها .. وكأن جسدهما الغرقان بالعرق من الصدمة ، قد هدأ بعد أن قذفهما شخص على غرة داخل الترعة .
لم تدم دهشتهم كثيرا ، فقد سارع الشيخ بفتح الصفحة ، بعد أن دعك عينيه مرة أخري .. وفي رعب واضح قال ..
- يا ساتر يارب .. أستر يا ستار ..
وفي خوف واضح ولهفة سألت أم العروس ..
- جري إيه يا شيخ وقعت قلبي .
- دا معمول لبنتك عمل على راس قرموط .. يا ساتر دا معقود كذا عقدة ، بأن تظل مليسة مثل الحائط ، لحد جوزها ما يزهق منها ويطلقها وهي مازالت بكرا ..
- أنا عارفة أم قلب أسود اللي عملت العمل .. مفيش غيرها.. ربنا يقعدوا في بناتها .
- وأيه الحل دلوقتي يا شيخ .. يا بركه .
- اللي يعمله ربنا هيكون يا حاجة يا كريمة .
خرج عارف أفندي يبحث في دكاكين القرية عن زجاجة خل وزيت زيتون طلبهما الشيخ منه قبل دخوله لحجرة النوم مع العروس وأمها .
كان كل شئ في الحجرة يكتسي بلون أحمر .. لون المصباح الكهربائي المتدلي من السقف.. السرير النحاسي .. الدولاب .. الحوائط .. صلعة الشيخ.
حتى جلباب العروس الشفاف الأبيض ، الذي كان يظهر تفاصيل جسدها البارزة ، فهي للحقيقة رغم سمرتها كانت تثير كوامن الرجال بأنوثتها الطاغية ، ومن كثرة أنوثتها تمناها كبرات القرية ، ولكن القلب وما يريد لم توافق إلا على عارف أفندي بمقامه العالي .
شد الشيخ شعر وأذن العروس ، قبل أن يأمر أمها بأن تدير ظهرها العريض لهما وتشيح بوجهها ناحية الباب ، وهي تدوم بإصبعها داخل طبق ملأه الشيخ بالماء وعدد من نقط كانت في قطارة عيون معه ..
تدوم وهي تقول ..
- يا للي ربطوها فكوها .. يا للي ربطوها فكوها .. يا للي ربطوها..
أما العروس فكان مستلقية تحت ملاءة السرير ، بينما الشيخ يجلس على حافته وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة والعرق يتساقط منه ، الأمر الذي أدخل الخوف والرعب في قلب العروس وأمها ، التي كان تحاول اختلاس النظر إليهما ، فينهرها الشيخ باستمرار ويهددها بأنها ستكون السبب في عدم تطفيش العفاريت من جسد بنتها ..
أما العروسة فقد ماتت في جلدها بعد أن رأت العرق يخترق طريقه من صلعة الشيخ إلى وجهه المليء بالتجاعيد ، وعيناه اللتان تضيقان في إصرار وتحد ..وتضاعف خوفها حينما كانت يده تمر فوق جسدها اللين الطري وتقترب من بطنها .
استمر هذا الوضع فترة حتى عاد عارف أفندي بالزيت والخل إلى المندرة التي يجلس فيها حماه .. بعدها خرج الشيخ ..
- احمدوا ربكم كان العمل معقود بطريقة لا يمكن لحد فكه .
- يعني كده خلاص يا شيخ .
- والله يا حج ربنا راضي على بنتك .. وهيرزقها بالعيال .
خلط الشيخ عبد المغيث الخل بالزيت ، الذي ستشربه العروسة بالليل قبل نومها ، ووضع فيها ورقة مكتوبة بطريق لا يمكن معرفة حروفها إلا عن طريق العفاريت ، ووضع ورقة أخري في زيت أكل حتى يستعمله العروسان عندما يكونان معا فوق السرير..
وقبل أن يختفي الشيخ بما حمله من صابون وأكل وأموال ، نظر إلى عارف أفندي بنظرة القائد المنتصر ، وهو يعطيه حجابا يعلقه في رقبته وقال له :
- لولا سري الباتع لكنت طلقت زوجتك ، وأنت يا حجة متخافيش .. دم البكارة هيرتفع في صدر بنتك وهتحبل على طول ..
رمي الشيخ تلك الكلمات وأنصرف وسط دعوات حما وحماة عارف أفندي ، وضحكات عارف أفندي وعروسه التي شعرت بالاطمئنان ..
في حقيقة الأمر كانت فرحة عارف أفندي أكثر من الدنيا كلها ..
فلأول مرة سيأكل .. ويشرب .. ويداعب زوجته ، بعد خمسة أيام مرت كأنها خمسة قرون ، كان عارف فيهم وعروسه يضربون أخماسا في أسداس وهم يبحثون عن حل لمشكلتهما ، ولكن أخيرا أراحهما الشيخ بسرة الباتع، ووسط هذه الفرحة قام عارف وعروسه برمي الخل والزيت والاحجبة مع سرها الباتع..
وسط فرحة بخيبة القائد ذي السر الباتع ، وفشله في معرفة أن العروس حامل في شهرها الثاني .






قصة " رغبة إمرأة ميتة " في جريدة الجمهورية

قصة " رغبة إمرأة ميتة " في جريدة الجمهورية

مجموعة رغبة إمرأة ميتة



خبر عن كتاب " رغبة إمرأة ميتة "

إنتحار عريس



حينما تموت المعاني ..
وتغلق العقول ..
تتوه الرجولة .

كل من ساقته نخوته من أهل القرية ، وقصد المستوصف القديم ، الذي انهارت أجزاء منه بفضل رشح مياه المصرف القريب ، يمصمص الشفاه ويلطم الخدود .. الجميع يؤكد بأن "حليم أفندي " حاول الانتحار ، وفضل أن يروح بقدميه إلى الجحيم بدلا من الهمس واللمز عليه ، ويقولون عليه بالفم الملآن أنه طلع مش راجل ليلة دخلته..
كانت عجلات الترولي التي تآكلت بفضل الصدأ ، تصطك داخل الطرقة المحيطة بالمستوصف من الخارج فتصدر أنينا ، ومن فوقها حليم يرتج ويكاد يهوى ، كلما اصطدمت بإحدى البلاطات المخلوعة.
- يا غالي .. يا طيب .. يا
رددتها عروس ( حليم ) وهي تضرب صدرها البارز بيديها ، بينما غطت الدموع وجهها الأبيض المائل إلى الحمرة بطبقة من الكحل..
وضعوا حليم بقامته الطويلة فوق سرير من الحديد ، ممدد على مرتبة ممزقة برزت أحشائها ، حاملة معها بقايا من القش والأقمشة القديمة ، تدحرج من شدقيه سيل من ماء لزج سميك في شكل زبد ورغوي على جانبي فمه ، ليستقر فوق بقايا ملاءة سرير لا يتضح لها لون من كثرة المطهرات والدم الناشف فوقها..
كان كل ذلك كفيل بأن ينزع من عيني ( مسعد التمرجي ) النوم ، ويدفعه إلى الإفاقة ووقف سيمفونية الشخير المعتاد عليها يوميا ، المتصاعد من بين شعيرات ( شنبه) المتدلي بداخل فمه ، والذي لولاه لتاه بقامته القصيرة ووجهه الصغير وسط أطفال القرية ، يبدأها منذ وصوله إلى المستشفي حتى الانتهاء من وردية العمل..
في ثوان معدودة كان مسعد قد تسلق درجات السلم ، رغم انهيار أجزاء منه وكرشه المتدلي الذي يكاد يلامس الأرض ، وصل إلى الحجرة التي يرقد بها الطبيب فوق سطح المستشفي ، صدمت كلمة (انتحار) الطبيب .. ليس من باب أنه فعل محرم أو غريب على أسماع أهل القرية ، ولكن أول ما خطر على باله هو أنبوبة الأكسجين الوحيدة بالمستشفي الفارغة ، وأدوات الإسعافات الأولية البدائية ، التي يخاطب مديرية الصحة منذ فترة لإمداده بغيرها ولكن لا حية لمن يجيب ..
كان الخبر مثل ( جاز السولار ) الذي دفع المحرك للعمل ، فقد دبت الحياة في جسد المستشفي البالي ، بعد أن تخيل أهل القرية أنها ماتت وشيعت جنازتها منذ زمن بعيد..
كان ( حليم أفندي ) يرقد في هذا الوقت داخل حجرة لطخت حوائطها بدم ناشف وآثار مطهرات صفراء وبقايا ناموس قتله مسعد .. حجرة فقيرة لا أساس فيها أو معدات طبية ، كل ما فيها سرير من الحديد ، ومكتب متهالك قديم من عمر وجود مبني المستشفي ، سطحه مليء بإمضاءات الأطباء السابقين ، وبجواره كرسي يجلس عليه الطبيب بقلق وعناية ،مخافة تعرضه للسقوط في أي لحظة ، أرجله الخلفية مكسورة ، تم تسكينها ببقايا من جريد النخل ، وفي نهاية الحجرة يقف وابور جاز أعرج بعد أن فقد أحد أرجله ، يئن تحت إناء أبيض من الصفيح ، مملوء لنصفة بماء عطن ، غاطس بداخله مقص وسرنجة من الزجاج وإبر خياطة الجروح إبتاعهم الطبيب على حسابه.. كانت حجرة وحيدة للكشف على المرضي وتتحول كثيرا لحجرة عمليات ، لطهارة وختان أولاد القرية والكفور المجاورة.
نسوة القرية افترشن أرضية الحوش المواجه لتلك الحجرة ، في جلابيب كاسية بلون القار وترابيع سوداء ملفوفة فوق الرأس ، تتدلي أطرافها حتي الحواجب ذات الشعر المبعثر..تحولت النميمة إلى أزيز يلف المكان ، ويمتد ليصل إلى أذني حليم فاقد الوعي ، توحي له بأنه استحق الجحيم وهذه الأصوات هي قرقعات اللهب المستعر التي استحقها على فعلته.
لحظات قليلة وكان الطبيب قد اخترق هذا الحصار ووصل إلى الحجرة ، في عجالة سحق بعض الحبوب داخل كوب ماء من البلاستيك، أقحمها داخل فم حليم حتي تقأ وقلب ما في أمعائه من سم..
بعدها عاد إلى حليم وعي جزئي ، تراءت له أمه بابتسامتها الباهتة.. وعلامات القلق تعتصر قسمات وجهها الممصوص حينما كان يداهمه أى المرض ، وقتها كان النوم يجافيها لأيام ، وتغفو وهي جالسة القرفصاء بجواره ، حانية جسدها النحيل للأمام ، الذي يئن من حمل الجلابيب التي ترتديها اتقاءا لبرودة الشتاء ..
من وقت لآخر كانت الغيبوبة تستغرق حليم ، وكلما أفاق منها يعتريه شعور بأنه يري نفس الحلم الذي يراوده من سنين فائته ، منذ كان طفلا ، وفي كل مرة يفيق قبل أن ينتهي من تفاصيله ، كل ما يتذكره صورة والدته وهي تستند بيديها على باب الدار ، واللون الأصفر الذي خلفه المرض يعتصر وجهها ، تنادي عليه بصوت أبح ، وهو يمارس لعبه الحجلة مع أخواته البنات من أبيه :-
- تعالي يا كبدي أصل زوجة أبيك المفترية تضربك ..
بينما صورة زوجة الأب تتضح له بتفاصيل أدق ، وهي تتعمد المجيء ناحية دارهم ، وتتهم والدته بالباطل.. ثم تتدلل على والده ، الذي يسارع إلى دارهم لإقامة البرهان أمامها بأنه سيد الرجال وهي تاج رأسه ، يدفع والدته على أرضية دهليز الدار ويركلها بقدميه.. فتبكي .. وتصرخ .. وتشتكي من الظلم... ورغم هذا القربان الذي يقدم عليه الأب لنيل رضاء زوجته الجديدة ، إلا أن لسانها اللاذع كان يصيبه ، فتتهمه وبصوت يشبه فحيح الثعابين:-
- لو أنت راجل كانت خافت.. ومش تسلط ابنها الحيلة على بناتك ..
سرت فجأة في جسد حليم قشعريرة شديدة ، جعلته ينتفض من فوق السرير ، كاد يمزق خرطوم الجليكوز المتدلي من يده، التي سارع " مسعد " بنخر لحمه بحقنها ، تحت وطأة قبضته الممسكة كأنها يد فأس ..
بعدها توجه مسعد إلى أهل القرية يستعطفهم بضرورة التفرق من أمام المستشفي ، لأن حليم سوف يمكث أربع وعشرين ساعة ، تحت ملاحظته شخصيا وبمساعدة الدكتور..استجاب أغلبية الناس ومن تبقي من الأهل ظل يفترش حوش المستشفي .
- دى ناس جاحدة يا دكتور .. أنت متعرفهمش علشان غريب .. اسألني أنا ..
قالها مسعد وهو يوارب باب الثرثرة مع الطبيب مشيرا بيده تجاه ( حليم أفندي ) ، وهو جالس القرفصاء على حصيرة مصنوع من البوص ، أكلت الرطوبة أطرافها ، في حين ألقى الطبيب بجسده الطويل فوق المكتب..
- أبوه كان رجل محترما .. لحد ما تزوج الثانية .. صغيرة يا دكتور فجننته
كانت تفاصيل وجه مسعد تتبدل وتتشكل لكي تناسب الحالة التي يقدمها ، وكأنه ممثل مسرحي متمرس ، يتقمص عددا من الأدوار المختلفة .. كانت تتبدل كلما اختلفت الرواية التي يلوكها للطبيب عن حياة ( حليم ) وأهله ..
- أصل أنا كنت بأروح أديله حقن أعصاب
ارتفعت من مسعد ضحكة غير مناسبة ..
- أصل زوجته كانت صغيرة وهو مش قادر .. الله يسامحني
لذا كان والد " حليم " يتحمل تسلط لسانها أمام خلق الله :-
- أنت منفوخ على إيه .. ولا فاكر نفسك راجل .. أنا بس اللي عارفة المستور ..
في أحيان عديدة كان صوت مسعد يشوبه نوع من التبجيل والتقدير ، حينما يتذكر أفضال الرجل وعطفه في السر على فقراء أهل القرية ، وبناء المسجد الوحيد بالقرية.. ظل مسعد يرغي وكأنه يسمع نفسه ، لأن الذي كان يسترعي انتباه الطبيب ما يبدر عن حليم من حركات ، كانت إفاقته تمنحه علامات الرضا والاطمئنان ، علامة بأنه سوف ينجوا من الموت.
فتح حليم جفونه بصعوبة ، حدق بنظره على بقع الأسمنت التي تساقطت من سقف الحجرة.. بقع توحي بالكآبة ، أعادت له بعضا من تفاصيل الحلم الذي لا يكتمل ، تفاصيل صورة أمه وهي تتألم وتتوجع من شدة المرض حتى ماتت ، وتركته وحيدا يجابه لدغات لسان زوجة أبيه .. كلما هم وبادر ليحكي لوالده عن معاملتها الفظة وطرده من الدار كلما جاء ( ابن أبو سليم ) في غيابه كانت تقول له :-
- أنت مش بتزهق من الشكوى لأبوك .. مش لما يكون راجل تقوله ..
تلك التفاصيل أدخلته في نوبة تشنج .. دفعت الدكتور إلى السعي ناحيته ..
- عاوز أموت .. الموت أحسن لي
راح حليم في غيبوبة مرة ثانية
- للدرجة دي يا مسعد مش عاوز يعيش ..
نفخ مسعد وزفر ، وخبط كفا على كف ...
- أصل دول يا دكتور محسوش بطعم الحرمان مثلنا ...
وسط غيظه أسر مسعد للدكتور بسر الفضيحة التي تعرض لها والده.. هو سر معلوم عند أهل القرية ، ولكن من العيب أن يتداولوه بالعلن .. والسر بدأ حينما بيت النية لزوجته ، بعد أن لمح في عيون أهل القرية ما كان يردده له ابنه حليم ، وفي يوم أوحي لها بأنه راحل إلى المدينة لشراء المؤن لمتجره ،دس نفسه في قطعة أرض ملاصقة لداره ، حتى اطمأنت الزوجة وفتحت باب الدار لتسريب حليم ، بعدها بدقائق تسلل ابن سويلم وكان العيب والسر .. لم يمكث الرجل فترة طويلة ، فسرعان ما سقط من طوله ومات.. ودارت الزوجة في القرية تلوك وتثرثر بأن زوجها لم يكن رجلا ..
توقف مسعد عن الكلام ، حينما أنتفض الطبيب من مقعده المتهالك ، وراح ناحية حليم الذي فتح مقلتيه بصعوبة.. حاول مداعبته ولكنه لم يستجب لأن تفاصيل حلمه كانت مسيطرة على عالمه.. ولكن هذه المرة كانت صور والده المعلقة في مخيلته ، صور يدغدغ فيها ويدلع زوجته واضعا أغلبية ماله بيدها .. صور سهره بجوارها الليالي إذا شعرت بالمرض أو التعب المصطنع .. في حين كانت تعاني أمه عناء المرض والوحدة .
- ليه بس عاوز تنقذني .. أنا عاوز أموت ..
- يا راجل دا أنت لسه عريس والأمل أمامك
- عريس ..
انفرجت أسارير حليم وهو يرددها.. سرعان ما استغرقته تفاصيل أحلامه ، فراح يستعرض صور أول مرة رأى فيها عروسه.. كان صوتها ورقتها الواضحة مفاجأة لأنها تشبه بالتمام والكمال والدته ، دفعه هذا للتقليل من فترة الخطوبة ، خاصة أن أمها رحبت بالعريس "اللقطة" ، الرجل الوحيد بعد أبوه ووريث أطيانه ومحلاته ، ولكن كل ما يقلقه لسانها السليط ، بادر بالتخلص منها فتكفل بكل لوازم الزواج..
ليلة الدخلة شعر بإحساس جارف للنوم على صدرها ، أخذته النشوة التي كان يشعر بها حينما كانت تطوقه والدته ، يومها سرى في جسده دفء فقده بعد وفاة أمه .. ولكن في صباح اليوم التالي جاءت الأم يسبقها لسانها .. سألت عن العرض والشرف .. وظلت فترة أسبوع تسأل ولا أحد يجيب .. حتى أخذت تضغط عليه من أجل الذهاب لطبيب معالج .. ساعتها علم لماذا كانت زوجة أبيه تعايره بأنه مش راجل .. وأخذت الكوابيس تلاحقه وتضغط على صدره .. كوابيس تزداد كلما طال لسان حماته ونمت ونعت حظ إبنتها لدي نساء القرية .. ساعتها شعر بأن موت أبوه كان رحمة .. فشرب السم..





الأحد، 6 يوليو 2008

أخبارالسياحة تحتفي بمدينة الحريم لأحمد خيري


يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني॥ويمكن أن نستفاد منه

في عددها الأخير أحتفت مجلة أخبار السياحة بكتاب " مدينة الحريم " للكاتب الصحفي أحمد خيري

الثلاثاء، 1 يوليو 2008

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مجموعة رغبة إمرأة ميتة

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مدينة الحريم في جريدة الأهرام

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": مدينة الحريم بالإنجليزية في الأهرام ويكلي

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": قصة ضياع العمر بجريدة الوفد

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال": جائزة الصحافة العربية

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال"

أحمد خيري و "عودة الوعي للرجال"

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

السبت، 28 يونيو 2008

عودة الوعي للرجال: عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

الخميس، 26 يونيو 2008

عودة الوعي للرجال: مجموعة رغبة إمرأة ميتة

عودة الوعي للرجال: مجموعة رغبة إمرأة ميتة

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

عودة الوعي للرجال: قصة ضياع العمر بجريدة الوفد

عودة الوعي للرجال: عودة الوعي للرجال: عودة الوعي للرجال: قصة " مستر عبدو الغفير "

عودة الوعي للرجال: إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري

عودة الوعي للرجال: قصة "يا روح ما بعدك روح"

عودة الوعي للرجال: قصة "يا روح ما بعدك روح"

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

قصة "يا روح ما بعدك روح"

الحلم يباع ..
ولكن الروح لا تشترى

يا روح ما بعدك روح

على مدار ثلاثة أشهر وأنا احتمل من زوجتي،ما يصعب على نفر أن يطيقه من أهل القرية،لذعات وإهانات من لسان أشد حدة من موس حلاقة الأوسطى شحتة الحلاق،ولكن ما باليد حيلة فهي ولية نعمتي ومن عائلة غنية ومتجبرة..
حتى لا أترك نفسي لأحبال الكذب من بداية الحكاية، كان الفدان الزراعي الذي دسه أخواتها،والجلابيب الصوف المستوردة، دافع قوي للصبر وتبلد المشاعر وسماكة الجلد..
وإحقاقا للحق كنت محل حقد من أهل القرية،ألمح في عيونهم استكثار النعمة، وفي أيديهم وألسنتهم وهم يتغامزون ويتلامزون على العبيط الذي شال الشيلة، الكل يلمح "خلسة" بأن أهلها ابتاعوني ليدارون مصيبتهم..والخلسة ليست خوفا مني فأنا فلاح غلبان مستأجر،ولكن كان من جبروت أهلها.
رغم ذلك فهم أناس طيبون لم يكتشفوا يوما بأني عبقريتي .. حتى بعد إرتكابي المصيبة التي سوف أقصه عليكم تفاصيلها ، والتي يبين حنكتي في اتقاء شرها،بعد أن صارحتني بضرورة تركها .. وكلما تلكأت في ترك ذلك العز ، شممت منها رائحة تهديد ووعيد ، ولكن عندما تتعلق المسألة بروحي "فيا روح ما بعدك روح"..
يمكنني أن أطفح لكم بكل ما في جوفي .. ولكن بعد الحصول منكم على عهد،أن تقذفوا كل ما تسمعوه مني في بير عميق ليس له قاع ،لأنني بصراحة أرتعد أن تصل إلى أسماع أهل زوجتي فيسارعون بقتلي، لذا أنا حريص على كتمان هذا السر حتى الممات..
في البداية الكل يعرف بأنني أقطن معها في دوار واسع ورثته عن الحاج والدها.. من الطوب اللبن مدهون من الخارج باللون الأحمر،وعلى بعد خطوات منه توجد زريبة للبهائم.
وحتى لا تفهمونني خطأ ، فقد تفتقت عبقريتي عن خطة الخلاص منها ، يوم أن ألمحت لي عن نيتها بالخلاص مني مثل زوجها السابق،ليلتها فقط نشطت الفكرة،وكانت ليلة شتوية.. هل تدركون حال قريتنا في مثل تلك الليالي .. تخيلوا سماء لم تتوقف عن البكاء طول يومين متاليين ، وكلاب تعوي وهي تلاحق الحرامية الذين ينشطون في مثل هذه الأوقات،وفوق كل ذلك عتمة مخيفة تضرب كل شيءبالقرية بعد انقطاع الكهرباء..
في هذا الجو المخيف تسللت على درجات سلم الدار،برشاقة لا تتناسب مع كرشي المدبب وقامتي القصيرة المدكوكة.. ولكن إصراري على الاحتفاظ بالفدان والجلابيب،دفعني بأن أمر عبر أكوام القش وعيدان الحطب المرصوص فوق سطح الدار،كأمهر بهلوان يمشي فوق الحبل داخل سيرك البندر ..
وفي ثوان معدودة وصلت إلى فوهة فتحة في سقف حجرة نومها،وفي حذر شديد انتزعت الغطاء الذي يسدها،وعلى مهل مددت رأسي لأتيقن من أنها تغط في النوم،بالكاد لمحت في الضوء الواهن الصادر من مصباح جاز معلق بالقرب من سريرها العتيق ذي الأعمدة النحاسية،سحنتها التي لا تختلف كثيرا عن سحنة " السيد قشطة"، وشخيرها المتدفق من زلومتها التي تستعملها في توجيه الإهانات باستمرار،فتأكدت من أنها ميته أقصد نائمة.
تناولت من " سيالة " جلبابي بعض الحصى الذي اصطحبته معي، في أول حصوة لم أفلح في إصابة هدفي ،فتبعتها بعدد آخر حتى أصبت جسدها مبعثر الأجناب والأرداف.
انتفضت وهي تفرك عيناها بيد،وبالأخرى تكبس شعرها الذي يضارع في شكله ليف النخيل، لم أمهلها وقت للتدبر، فسارعت باستجماع شجاعتي وقواي وسعلت بقوة في صوت يشبه نبرات المرحوم زوجها السابق، وأنزلت من الفتحة إحدى ساقاي بعد أن دهنتها من تراب الكانون بلون أسود ،وبكل قوتي رددت عليها :-
- أنا جاي أخلص الناس منك .. بقي تقتليني
- مين .. يا حافظ أحفظ .. انصرف .
- هأقتلك وأخلص الغلبان جوزك.
لم تتحمل المفاجأة وبأعلى صوت لديها دبت وأغمي عليها..قبل أن يفيق أحد من أهل الدار،هرولت عائدا بنفس الرشاقة،إلى الحجرة التي تعزلني فيها منذ ليلة الدخلة،حجرة ضيقة غير مدهونة، في نهاية الدهليز بالقرب من زريبة البهائم.
بعد أن مسحت ساقاي وغطيت رأسي باللحاف، شعرت بحالة من الهرج في الناحية الأخرى من الدار.. تعمدت بأن يتصاعد شخيري ويصل لكل من بالدار،بعد فترة وجيزة أيقظني إبنها من زوجها السابق وهو يرتعد من الخوف ،فخرجت حافي القدمين في لهفة مصطنعة ،وقتها كانت زوجتي مازالت تغمغم بكلمات لا يفهمها أحد غيري..
لمحت في هيئتها شخص آخر غير زوجتي المتجبرة ، وجه غسله البكاء بأكوام من الكحل ، ورعشة شديدة في جسدها،انتفضت على أثرها أكوام الشحم .. ووجدت دموعي بحسبة بسيطة تنهمر وأطرافي تتشنج خوفا على زوجتي ..
سعت تجاهي بعد أن أنساها الخوف حقنة السم التي حقنتني بها قبل النوم في الوريد،أشرت إلى الابن أن يروح إلى حجرته،حتى يمكنه الاستيقاظ مبكرا للحاق بمدرسته،وأمرت الخادمة وبناتها بالخروج،وحينما خلا المكان سألتها في مسكنة:-
- مالك يا أغلي الناس.
بكلمات مدغدغة ..
- عفريت المرحوم ناوي يقتلني .
- يا شيخة عفريت إيه .. دا كابوس
- والله شوفته.. وكلمته
أشارت بيديها المكتنزة إلى فتحة السقف،ولكنها انصدمت حينما رأتها مسدودة بإحكام ،فعقد لسانها الأطول من الكرباج وأخذت تقسم برأس أبوها .
في هذا الوقت تجلت عبقريتي،وتفتقت عن حيل وتفانين ،جعلتني أقنعتها بأن ما رأته كابوس وتأنيب ضمير.
في تلك الليلة رجتني وتذللت إلي بأن أغفو بجوارها لأول مرة على السرير ، ولكني اختلقت الحجج حتى أعطي نفسي فرصة استكمال مخططي .. تسللت بعد أن نامت قاصدا حجرتي، وسط فرحة عارمة بما حققته عبقريتي..
قبل أن يعم نور الصبح القرية كان الخبر قد انتشر ، مزركشا بتفاصيل وضعتها الخادمة بما وسعها من تخيلات .. لم يصادفن نفر في الطرقات والحواري حتى أوقفني وألح علي لمعرفة الحقيقة،وحتى أتخلص منهم ،كنت أقسم لهم بأن زوجتي سليمة ولكن الواضح أن الجن مسها أو خاواها..
حل الليل وجاء الأخ الأكبر بجسده الفارع،مصطحبا معه زوجته وأولاده السبعة،كادت رأسه الملفوفة بشال أبيض ضخم،أن تلتطم بفوهة الباب من أعلى،وبعد أن أطمأن على أخته،راح إلى الكنبة العتيقة القريبة من الفرن،جلس مستندا على مخدة كبيرة أحضرتها الخادمة من حجرة زوجتي .
انقضت الليلة بين لسعات لسانه الذي لا يقل حدة وطول عن لسان أخته،ودخان الجوزة الذي مكث يعب منه حتى أصابني بدوار، متباهيا بشاربه الذي يقف عليه الصقر، ولأنني عبقري أظهرت له رثائي على زوجتي،متحملا كل الإهانات حتى مضي إلى داره ..
سبقت زوجتي إلى حجرتي مدعيا الإرهاق والتعب،وحينما جاءت لتوقظني ادعيت النوم العميق،فما كان منها إلا أن نعتتني بعدد من الطلقات السامة،وأغلقت خلفها الباب بشدة وراحت إلى حجرتها .
أنتظرت حتى هل منتصف الليل ، تسللت بخفة وسط ظلمة تحيط بالدهليز ،حتى وصلت إلى باب حجرتها،وبمجرد أن واربته بهدوء هاجمني شخيرها المتقطع،مما جعل الاطمئنان يدب بداخلي ، دلفت بحذر شديد حتى وصلت بالقرب من سريرها،أطفأت اللمبة الكيروسين واستلقيت تحته..
نسيت أن أصارحكم بأنها هي التي تصرف على البيت من ميراثها،لذا كنت أخاف بأن تطلقني،فأعود مرة أخري للعمل مستأجرا في الحقول ..
في أثناء ذلك انفلت جسدها الضخم وأنقلب تجاهي،حتى كادت تقسم ظهري نصفين،حاولت رفع خشب السرير من أسفل عددا من المرات،حتى سقط لوح متواجد أسفل رأسها،انتفضت على أثرها مذعورة صارخة بأعلى صوت :-
- عفريت .. عفريت .. عفرييييت
هرولت متخبطة في عتمة الحجرة،حتى وصلت إلى دهليز الدار حافية القدمين وبشعر منكوش،صدمها الظلام الدامس الذي يحيط بالدار،انطلقت تتخبط حتى وصلت إلى حجرتي،قابلتها على الباب رابضا على ذراعيها،ارتمت على كتفي وهي ترتعش وتنتفض من الخوف.
استيقظ كل من في الدار،حتى البط الساكن بجوار الفرن الموجود في آخر الدهليز..
أسرعت ناحية حجرتها في ضوء اللمبة التي أحضرتها الخادمة،بحثت عن العفريت التي تأكد رؤيته ووجوده،وأمام الجميع وبعبقريتي المعهودة أثبت لها بأن كل ما تراه أوهام وكوابيس.
ظلت فترة تتلفت وتقسم بأغلظ الأيمان،وبعينين مذهولتين زائغتين أخذت تتلفت،وتتصنت على أصوات الرياح أثناء اصطدامها بالحطب المرصوص فوق سطح الدار ..
ليلتها قبضت على ذراعي بيديها الغليظتين،وأمام إصرارها ألقيت بجسدي الضعيف على سريرها .. وحتى أكون صريحا كانت تلك الليلة صعبة ،فقد أضعف خوفها عزيمتي،وكدت أتراجع عن نيتي وأفتح معها صفحة جديدة،لولا ما رأيته في صباح اليوم التالي ..
رأيت عادل أفندي مدرس إبنها داخل حجرة الضيوف،يربت بيده على كتفها،وهي تحكي وتبكي مما أصابها من رعب،دفعني ذلك لتذكر تلك الليلة الكئيبة،ليلتها رجعت إلى الدار ورأيت ما رأيت،أرجوكم لا تسألوني عن تفاصيل ما لمحته،حيائي يمنعني من البوح .. ولكن كل ما يمكنني قوله،هو أن أحكي لكم عن عبقريتي في تلك الليلة.
وقتها لم يكن قد مر على زواجنا غير شهر،كنت قادما من ناحية الجرن،وسط برك من الطين،لمحت ترباس باب الدار مفتوح،وإضاءة المصباح الباهتة تتسرب من فتحات شباك حجرة الضيوف،تيقنت من وجود أغراب،وقفت بجوار الباب الكبير لأخلع حذائي المغسول بالطين،تنامت إلى سخسخات وآهات زوجتي .. مددت رأسي ..فرأيت ما رأيت ..
- لو كنتم مكاني ماذا ستفعلون ؟
لولا عبقريتي لاندفعت مثلكم،وعملت مثلما فعل زوجها المرحوم حينما رأي ما رأيت،والنتيجة تعرفونها فلم يمهله القدر حتى الصباح،ففي آذان الفجر قامت ميكروفونات الجوامع تنعي الفقيد ..
ولأنني ذكي وعبقري،تراجعت إلى الطين والشتاء المنهمر في الخارج،فيا روح ما بعدك روح،وبقيت أكثر من ساعة محتميا بحزم الحطب المرصوصة في أحد أركان الجرن حتى خرج عادل أفندي،استجمعت كل قواي ودخلت مبتسما على زوجتي وكأنني لم أر شئ ..
زادتني تلك الذكريات إصرارا على تنفيذ مخططاتي للنهاية،في الليلة التالية حينما سمع أخوها حكاية العفريت،أصر على إحضار الشيخ مبروك،ليخرج من جسدها الجان،ولكن بحيلي المعهودة توسلت إليه حتى ينتظر.. فوافق على مضد خشية الفضائح .
بعد أن خلد الجميع إلى النوم،تصنعت بأنني غفوت بجوارها،ولكن الحقيقة أن صورة عادل أفندي كانت تقلقني،قبل أن تنام بقيت فترة ملتصقة بي من الخوف،حينما تعالت زلومتها بالشخير،تسللت إلى حجرتي لأحضر كيس من القماش،بهدوء أخرجت منه ثعبان،كنت قد اشتريته من أحد الكفور القريبة،بعد أن نزعت منه الأسنان و اللسان،أطلقته بجوارها،وبحركة عفوية مددت قدمي ولكزتها بقوة عدة مرات،لم تمر دقائق حتى وجدتها في وسط الحجرة تصرخ وتولول ..
- تعبان .. تعبان
انتفضت ورحت لأرفع إضاءة المصباح حتى أرى الثعبان،ولكن اللمبة أطفئت وعمت العتمة..
تدحرجت زوجتي إلى الدهليز حافية وكتل اللحم المترهل تتطوح ،أحضرت المصباح الموجود في الخارج،دخلت معها للبحث عن الثعبان،فلم نجد له أثر.
في الصباح تحولت القرية إلى خلية نحل،الكل يطن ويزن بأن زوجتي بنت الحسب والنسب أصبحت مجنونة .. بصراحة أشفقت عليها،ولكن ما باليد حيلة فيا روح ما بعدك روح ..
في ذلك اليوم أصرت عائلتها على اصطحابها إلى المصحة النفسية في البندر،حتى لا تتدهور حالتها الصحية،لم تشفع توسلاتي ورجواتي فوافقت على مضد ..
ظللت طوال اليوم أواسي زوجتي،لم تتوقف عن البكاء والنحيب والتحدث مع نفسها،بعد أن فقدت قدرتها على التميز عن تحديد الحقيقة من الجنون.
أما أهل القرية فقد قضوا يومهم بين المجيء والذهاب للاطمئنان،أو بالأصح للتأكد مما سمعوه،قبل إرسالها للمصحة النفسية في صباح اليوم التالي ..
في تلك الليلة جاءت ليلة الفصل،استجمعت شجاعتي وقواي لأنهي المخطط،بكل عبقرية وبراعة بقيت بجواري زوجتي حتى قبل آذان الفجر..وعندما تأكدت من نومها، كان لا بد أن أنهي الحكاية بعبقرية فذة،لن يتوصل إليها أغبياء القرية.
أثناء استغراقها في النوم،فككت فوهة المصباح وسكبت منه الكيروسين، وقبل أن تفيق من غفوتها،كنت قد أشعلت فيها النار،بعدت عنها مسرعا إلى حجرتي،وظلت تصرخ في الدهليز وسط النيران،تجمع على آثرها أهل القرية،فتحت الباب الخارجي حتى يلمحني الكل،وأنا أحمل اللحاف بين يدي،لأطفئ النار التي تمسك بها،ولكنها كلما كانت تراني تسرع مبتعدة لأنها رأتني وأنا أشعل النار ..
كانت قد قاربت على نهايتها،ففتحت باب الدار لأهل القرية الذين اندفعوا ليساعدوني على إطفائها،ولكن السر الإلهي كان قد خرج ..
ومن يومها وأهل القرية يشفقون على،وأهلها تركوا لي بعض ميراثها ..



الأربعاء، 25 يونيو 2008

عودة الوعي للرجال: إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري

إختفاء القاهرة " رواية جديدة للكاتب أحمد خيري

صرح الكاتب أحمد خيري في جريدة اللواء أنه بصدد نشرالإنتهاء من طباعة رواية جديدة له أطلق عليها " نهاية القاهرة " خلال الشهرالقادم ، يعالج فيها الظواهر الغريبة التي دخلت على المجتمع المصرى بطريقة أسطورية وأدت إلى إندثارها ॥تصدر هذه الرواية عن نفس دار النشر التي طبعت له مجموعته الأخيرة ॥تأتي هذه الرواية عقب النجاح الذي حققته مجموعته الأخيرة " مدينة الحريم " التي تستعد دار النشر إلى طباعة طبعة خاصة منها للمشاركة بها في المعارض الدولية مع ترجمتها للإنجليزية .. حيث قال محمد عبد العال مدير دار النشر ، بأن الدار تلقت عدد من العروض بإعتبارها صاحبة الحق في المجموعة القصصية " مدينة الحريم " بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية .. بعد النجاح الذي حققته على المستوى النقدي والجماهيري ..وهناك العديد من الأخبار علي مدونة الكاتب

الثلاثاء، 24 يونيو 2008

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

عودة الوعي للرجال: عودة الوعي للرجال: قصة " مستر عبدو الغفير "

عودة الوعي للرجال: قصة " مستر عبدو الغفير "

عودة الوعي للرجال: قصة " مستر عبدو الغفير "

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

عودة الوعي للرجال: أطفال الليل

يسرني معرفة رأيك حتي لو خالفني

قصة " مستر عبدو الغفير "

وسط الأضواء ..
تزوغ العيون ..
ويفقد الاتزان ..

مستر ( عبده ) الغفير

عمت حالة من العصيان بين رجالات القرية ، الكل عقد النية على عدم السعي إلى الحقول ، الكل يفترش الطرقات المحيطة بدوار العمدة ، وفي نهاية النهار الكل يساق مكرها إلى داره ، كل ما يفعلونه هو اللمة في حلقات متقطعة ، يلعنون فيها الفقر والجهل الذي حدفهم في أحضان زوجات لا يتخيرن عن شجر الجميز ، وفي ليالي السمر يتسرب منهن رائحة روث الحيوانات.
نساء القرية تجمعن أمام عتبات الديار ، يتشاورن وينصبن المكائد للحصول على خرقة ملابس من ريحة الست " ماريا " زوجة ابن العمدة ، ليتفتق جبروت الشيخة لواحظ ، وتدفع عفاريتها ليطاردنها في الأحلام ، لتفر عن ديارهن تاركة لهن بقايا الرجال.
ثلاثة أيام مروا والنعاس يجافي القرية ، الرجال يرتعدون حتى لا تضيع عليهم لحظة ، يمكن أن يروا فيها الست " ماريا " ، وهم الذين ينتظرون إطلالتها المباركة من عام لآخر ، تمر عليهم الأيام في ملل وقلق ، وتجيء لتمكث بينهم أسبوع أو أثنين.
أما ما جري للغفير (عبده) فكان أعتي وأشد ، فهو الغفير المؤتمن الذي يلتصق بها مثل صمغ السنط ، يسندها حينما تهم بامتطاء ظهر الحمار ، ويهز رأسه في ثقة لدس الطمأنينة حينما تصرخ مخافة السقوط ، و يبرم طرفي شنبه عندما تبتسم له شاكره حمايتها من رذالة أطفال القرية العفاريت.
أما في الليل يتهادى في خيلاء وسط حواري القرية شادا قامته القصيرة ، فكل رجال القرية عجائز وشباب يتمنون له الرضا ، وبعد إلحاح منهم يوافق على الجلوس بينهم على الغرزة ، يحمل كل منهم كرسيه ومن لا يجد مكانا حوله يفترش الأرض ، يرتشف على حسابهم كل أصناف المشروبات الساخنة والباردة ، التي لا يذوقها إلا من العام للآخر.. وبعد إلحاح ودس علبة سجائر ماكينة في سيالة جلبابه ، يتنطع في جلسته بعد أن يملي عليهم الشروط وعدم المقاطعة ، ثم ينبري في القص والحكي عن صولاته وجولاته مع الست ماريا ، أغلبيتها يحاك من بنات أحلامه وأمنياته ، الجميع ينصتون وكأنهم سكارى ، يفتحون أفواههم دون حراك أو تعليق رغم أنهم سمعوا هذه الحكايات منه بألوان شتى مئات المرات ، وكلما وصل إلى وصف شعوره وهي تلطع على خديه قبلة حارة عندما تجيء من السفر وحينما تغادر ، يضربون صدورهم ويكادون يشقون جلابيبهم المتهالكة.
كل ما فات كان من اليسير أن يحكيه لأهل القرية مرشوشا على وجهه بعض التوابل ، ولكن هناك واقعة جرت الليلة الماضية ، أغرب من أن يصدقها عقل ، حرص على ألا يعلمها نفر من القرية .. جرت تفاصيلها في الليلة الثالثة من قدوم الست ماريا إلى القرية ، وبالتحديد بعد أن خطف ثلاث ركعات المغرب في المسجد القريب ، ساعتها فضل أن يسلك المدق المجابه لشباك حجرة نومها ، لعل الحظ يحالفه ويملي ناظريه منها.
حينما وصل إلى الدوار لمح حضرة العمدة وشيخ البلد يجلسان في دهليز الدور الأرضي ، أدار مقلتيه البارزتين لتنقب في أنحاء الدار ، مسح بأذنيه وحاسة الشم الحجرات ، بأنفه وعينيه أدرك خلو المكان من الست ماريا وزوجها ، وبحسبة بسيطة أيقن أنهما صعدا إلى حجرتهما بالدور الثاني هربا من لدغات الناموس اللزج .
بدون استئذان تسلل في بطىء شديد متدحرجا بقامته المدكوكة وكرشه المتضخم ، صاعدا درجات السلم المقامة من الطوب اللبن وجريد النخل، أرسى شراعه على أريكة من خشب التوت ملقاة في أحد جوانب دهليز الدور العلوي .
انتظر برهة خروج ماريا من حجرتها، لتوميء إليه بالإشارة ليتم مهمته المعتادة في رش مسحوق الناموس الذي جلبته معها من بلاد برة ، ولكن البرهة طالت وتحولت بمرور الوقت لقلق دفعه للتقلب في جلسته ، وكلما طالت أحس بأسراب من النمل الأبيض تزحف داخل أطرافه ، ودبابير سوداء تحوم وتطن في أركان رأسه الملفوفة بشال أبيض لا يغسله إلا من عام لآخر ..
- الله يخزيك يا شيطان.
كان وقع الانتظار صعبا على مستر عبده ، جعله يفقد الإحساس بلدغ الناموس الذي يتعارك للفوز بدم قدميه العاريتين ، والنية بداخله تتصارع وتقوي وتتضخم ، والرغبة تدفعه لإتمام ماخطط له ، دافعا تكونت أطرافه من أحلام وأوهام اجترها عبر ثلاث ليال ماضية .. والليلة حان وقت تنفيذها ، ولن يترك نفسه حبيسا للخوف من بطش العمدة إذ ما تم ضبطه متلبسا.
كل ما كان يراوده هو حلم اختلاس النظر إلى ماريا وهي ممدة بجسدها " الملعلط " الأبيض مثل قشدة الجاموسة ، فوق السرير النحاسي الموجود في حجرتها المدهونة باللون الأحمر .
- الله يخزيك يا شيطان.
انتفض (عبده) من مكانه ليبعد وسواس الشيطان ، أخذ يروح ويجيء أمام السلم ، ولكن في نهاية المطاف استسلم للتفكير في الخطة ، التي قضى الليالي يرسم فيها ، لتفادى الوقوع في المحظور ، وضبطه في حالة تلبس وهو يتطلع من الفتحات التي ملأت باب الحجرة العتيق.
جاءت لحظة التنفيذ ، حينما تناهى له صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة العشاء ، وحضرة العمدة ينادي على ابنته لتجلب إبريق الماء ، يجدد وضوءه ويصطحب شيخ البلد كالعادة إلى المسجد ، وتخلوا الدار من صنف الرجال ماعدا ابن العمدة الغاطس في بحر اللبن.
- مالك يا مدعوق هتوقع علينا السقف .. مش تيجي تصلي معنا.
- جاي وراك يا شيخ البلد.
كل ما كان يخشاه عبده ويعمل له ألف حساب ، أن السقف يفضح أمره، فهو عروق من أفرع التوت مشدودة بين الحوائط ، تربط بأعواد من البوص وجريد النخيل .. حينما يمر فوقه شخص يظل يلب ويصدر أصوات تفضح حركة الأقدام.
شب عبده على أصابع قدميه ، أطل برأسه التي تشبه في حجمها رأس العجل ، من بين عروق البلكونة ، لمح حضرة العمدة وشيخ البلد وهما يقصدان الباب ، سرت الطمأنينة في قلبه بعض الشيء، ولكنه كان اطمئنانا يشوبه الخوف من زوجة حضرة العمدة ونساء العائلة المرصوصين في دهليز الدوار، ويمكنهن اكتشاف فعلته.
- الله يخزيك يا شيطان.
رددها عبده بعد أن أحبط الخوف همته ودفعه للجلوس مرة أخري على الأريكة ، ولكن الفكرة الجهنمية ظلت تطارده حتى سيطرت عليه مرة أخرى ، دفعته صورة شفتا ماريا التي تلطع بهما القبلات على خدود رجال العائلة دون حياء بأن ينتفض من مكانه ويخاطر ، رغم أن مصيره معروف إذا ما تم ضبطه ،علقه ساخنة في حجرة التليفون ، وفضيحة بين أهل القرية بعد أن يتهمه العمدة بسرقة البهائم ، وفي النهاية عزله من العمل وقذفه خارج القرية بصحبة أولاده.
- الله يخزيك يا شيطان ..
خلع عبده حذاءه القديم الذي منحته له ماريا ، أمسك طرف جلبابه بأسنانه ، خطى على مهل معتمدا على أصابع قدميه ، ملتصقا بالحائط لكونه المنطقة القوية من السقف .. كانت مشيته أقرب لزحف الأوز ، حتى وصل إلى باب الحجرة ، وسط إضاءة مخنوقة للمبات جاز معلقة في أركان الدهليز ، دس أنفه وعينيه الضيقتين في فتحة من فتحات الباب ، في بادي الأمر لم ير أحد داخل الحجرة ، لأن الظلمة كانت تضرب أركانها، أنتقل إلى فتحة أوسع ولكنه فشل أيضا في رؤيتها ، فتنهد كاتما أنفاسه مخافة أن تسقط السقف .
تكون لديه يقين من نومها على السرير ، شب حتى وصل إلى فتحة أعلى الباب واسعة ، عسر كل قواه وركز نظره لكي يتمكن من رؤيتها داخل العتمة , لمح شيئا أبيض ملقي في استهتار فوق السرير ، اجتاحه شعور بأنه لا بد أن جسدها الأبيض الذي يبرز من ملابسها حينما تسير وسط حارات القرية ، أكدته الرائحة الرقيقة الفواحة من الداخل ، التي غطت على رائحة مبيد البراغيث والحشرات المرشوش في أرضية الدار.
لمح جزء أبيض يتدلى على جانب السرير ، أدرك أنه لا بد أنه ساقيها وتستعد للنزول ، فهاتين الساقين يعرفهما جيدا وطالما قبلهما في الحلم ، ساقان دفعا شباب ورجال القرية إلى اعتزال الفلاحة في الحقول ، والتسكع بالقرب من دوار العمدة لعلهم يظفرون بنظرة منهما .
بعد لحظات رأى الجسد الأبيض يشوبه لونا أحمر ، دب بداخله شهوة عارمة حينما تخيلها وهي تنتصب أمامه بقميص نومها ، تتمطى في بطء وتثاؤب ، تغازل شعرها الذهبي الناعم بيديها البيضوتين .
تحرك هذا الجسد الأبيض ذي الحمرة في اتجاه الباب ، داهمته صدمة ودوار أوقعه في حيرة ، إذا جاءته الجرأة وهرول مبتعدا عن الباب ، سوف يهتز السقف وتفضحه آثار أقدامه ، وفي حالة تسمره أمام الباب فمصيره معروف .. أصابته الصدمة بالحيرة لثوان معدودة ، مرت عليه كأنها قرون ، لأنه تخيل نفسه وهو مجرور بين يدي الغفر إلى حجرة التليفون .
تفصد وجهه المنفوخ ببرك عرق ، كادت من تدفقها أن تتسرب إلى الدور الأرضي وتغرق النساء ، ولكن الحظ حالفه حينما حاد الجسد الأبيض وبدل وجهته قاصدا شباك الحجرة البعيد..
لم ينفك يذهب عنه الخوف ، حتى هاله صوت وقع أقدام تصعد درجات السلم ، مصحوبة بصيحات تهليل وضحكات.. حاول القفز من مكانه ولكن لم تسعفه قدماه ، شعر بأنهما أكياس رمل وجبس ، توقفت هذه الحركة على السلالم ، اقنع نفسه بأنها لأحد الأطفال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
قبل أن يعاود تلصصه ، جاءت نسمه خفيفة أطفأت إحدى المصابيح ، ذكرته بالنصيب الذي حدفه بزينب مراته الملعونة ، مازالت فعلتها ليلة الخميس الماضية عالقة في ذهنه ، حينما داعبها أثناء التهام وجبه العشاء، وغمز لها بعينيه حتى لا يفهمه الأولاد.
- أخمدي العيال لحد ما أروح اشرب نفسين جوزة وأرجع بسرعة ..
ولكن نفس الجوزة سلم لنفس آخر وتأخر عبده ساعة كاملة ، بعدها رجع وهو يفكر طول الطريق في ليلة الخميس ، حتى وصل إلى بيته فسمع شخير زوجته يغطي على نهيق حمير القرية كلها ، ليلتها فتح باب الحجرة وكان الجو مظلما ، بحث عن زوجته الملقية مثل زكيبة الذرة وسط حفنة من الأولاد المنثورين حولها فوق ظهر الفرن ، أصطدم بهم حتى وصلت يده إلى باطن قدمها المتسختين ، ولكن ما كان عليها إلا أن انقلبت ، حاول عددا من المرات ولكن النتيجة ..
- نام يا راجل أختشي العيال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
عاود عبده الكرة ومد أنفه وعينيه داخل الفتحة ، سمع آهات بحث عن مصدرها ، شعر بأن الجسد الأبيض يتحرك نحو السرير ، لمح شيئا أسود بجواره ملقي جزء منه على السرير وجزء آخر يلامس بأطرافه الأرض .. أدرك بأنه جسد ابن العمدة المحظوظ ، وفي ثوان كان الجسد الأبيض يصعد فوق الأسود..
- الله يخزيك يا شيطان .. أعوذ بالله ..
انتفض عبده مذعورا مبتعدا عن الباب ، متخلصا من الخوف الذي كان يتملكه ، أثناء نزوله لصلاة العشاء ، فوجئ بأن ماريا وزوجها هما اللذان جاءا ويجلسان مع نسوة الأسرة ، ولم يكونا في الحجرة ..





عودة الوعي للرجال: رغبة إمرأة ميتة

الاثنين، 23 يونيو 2008

عودة الوعي للرجال: ‏مدينة‏ الحريم

عودة الوعي للرجال: عودة الوعي للرجال: حب للأبد

عودة الوعي للرجال: حضرة العمدة

عودة الوعي للرجال: حب للأبد

الخميس، 19 يونيو 2008

حضرة العمدة


وسط الضباب ..
تسكر العقول ..
وتغيب الأدوار ..


حضرة العمدة

‏في ليلة صيفية لم تنخلع تفاصيلها من أدمغة أهل القرية حتى الآن ، بعد تأديتنا لصلاة العشاء ، هلت إلى آذاننا صرخات وعويل ، إجتهدنا في البداية للتعرف على مصدر انطلاقها فلم نفلح ، لأن منابعها متفرقة .. مترامية .. مبعثرة بين حواري وأزقة القرية ، لم ينتظر الأطفال حتى يرتدوا الأحذية ، حملوها بين أيديهم عند باب المسجد وانطلقوا.
وما كانت إلا دقائق وقد ارتد بعضهم وأخبرونا بالمصيبة التي حاقت بقريتنا .. عرفنا بأن هناك مشكلة عويصة لا أول لها ولا آخر .. فاقت في وقعها عدد الجرحى الذين التهمهم انفجار "وابور" الجاز‏ داخل المضيفة ..
إحقاقا للحق وقبل أن تقع هذه المصيبة.. لم تكن تسمع‏ لأهل قريتنا ‏صوت‏ ‏ولا زعيق‏ ‏.. فكل الدلائل تبرهن أنهم‏ ناس‏ ‏طيبون مسالمون .. أغلبية رجالها هجروها من زمن بعيد ‏، لأنهم أناس كسيبة وهمهم الأكبر تكنيز المال والذهب في أيد زوجاتهم .. فشدوا الرحال إلى‏ ‏دول‏ ‏النفط .. وأما الفئة التي لم تهاجر فقلوبهم ضعيفة لا تقوي على تحمل الغربة ، تجدهم قانعين خانعين ، بالنهار مربوطين بالغيط يساعدون النساء والأطفال والعواجيز في زراعة الأرض وتربية البهائم ، وبالليل يهربون من ألسنة نسائهم الحادة إلى الغرزة الوحيدة المنصوبة بالقرب من المقابر .. وفي العادة تنفض حواريها من أي نفر بعد صلاة العشاء.. ‏لذا‏ ‏لم نر يوما شجار إلا بين النسوة ، وهي شجارات لا تصل لحد المشكلة المستعصية التي وقعت تلك الليلة.‏
حينما جاء إلينا الأطفال بالخبر اليقين عند الجامع ، علمنا بأن المشكلة العويصة تمخضت بسبب ما جرى لحضرة العمدة الذي تولي منصبه منذ أسبوع فقط .. وقتها من استطاع الجري قفز وأسرع ومن تحمله قدماه بالكاد من الشيوخ والعواجيز فضل ركوب الحمار ، فالكل يعترف بأن كرامة حضرة العمدة من كرامة أهل القرية ، ونحن لن نسمح بأن يتحول شرفنا إلى لبانة تمضغها ألسنة أهل القرى المجاورة في مجالسهم ..
ورغم ما أصاب أهل قريتنا من انشقاق على ما جري لحضرة العمدة ، إلا أن المصيبة في النهاية وحدتهم .. ففريق الشيوخ والعواجيز ، تشعرك نبراتهم‏ ‏ ‏بصدي‏ من الشماتة وهم يمصمصون شفاههم بالحسرة على أيام زمان وعمد زمان:-
‏- تستاهل ..
أما الفريق الثاني فكانوا نسوة القرية .. ارتسمت ‏‏على‏ ‏وجوههن إمارات الشفقة‏ وهن يقلن:-‏
‏- ‏والله‏ بألف‏ ‏راجل
وحتى تتمكنوا من تكوين فكرة حقيقية وتتخيلوا‏ صعوبة ‏ما‏ ‏ألم بقريتنا‏ من فاجعة ‏، نبدأ بمشهد أهل القرية الشامتين ، حينما‏ وصلوا إلى جسر الترعة المارة في نطاق القرية عند الجهة الشرقية ، ‏ارتصوا في حلقات ودوائر‏ ، فوق أكوام من الحصى والتراب استخرجته الكراكة حديثا أثناء تطهيرها للترعة ، تجمعوا ‏حول‏ ‏جثة‏ غريق غريب ‏أوقفتها شبكة الصيد التي يمتلكها المعلم حسين وينصبها عند فوهة الكوبري ، هؤلاء الشامتون انتظروا قدوم حضرة العمدة وسط‏ ‏الأضواء‏ المنبعثة ‏من الكشافات‏ الكهربائية ‏المستوردة‏ ‏ليحل لهم تلك المصيبة.
أما‏ الفريق ‏المشفق‏ من أهل القرية على حضرة العمدة ، ‏لم‏ يجسروا على الاقتراب من الطريق المؤدي إلى الترعة ‏.. فالترعة يعزلها عن ‏القرية أفدنة مزروعة بعيدان الذرة ، ‏لذا فكل ما فعلوا هو أن تجمعوا‏ ‏أمام‏ ‏العتبات‏ ‏ ، ‏يسألوا‏ ‏العائدين‏ ‏عن‏ ‏القتيل‏ .. ‏ويتضرعون إلى الله بأن يكلل ‏ ‏أول‏ ‏اختبار‏ ‏ لحضرة‏ ‏العمدة بالنجاح‏ ، ‏خاصة‏ ‏أن‏ ‏تعيينه‏ ‏جاء‏ ‏رغما عن ‏أنف‏ ‏أغلبية‏ ‏القرية .
‏وحتى لا تتوهموا بأن المصيبة التي حيرت أهل قريتنا هي ‏الجثة‏ ‏الغريبة ، ‏فإن ‏حقيقة‏ ‏المشكلة ليست كذلك‏.‏
عندما‏ ‏شاع‏ خبر‏ الجثة الغريبة‏ ‏بعد‏ ‏صلاة‏ ‏العشاء‏ ‏ ، ‏تسابق‏ الخفراء ‏إلى الدوار ، لإخبار العمدة بالمصيبة ، وعندما سمع بالخبر لعن أجداد القتيل ومن حدفه في زمام القرية ،‏ فالخبر جاء في وقت غير مناسب ، كان‏ ‏العمدة مشغول‏ لدرجة تلهيه عن تلك‏ ‏المصيبة‏ التي حدفها القدر .. ‏
لا يذهب‏ ‏تفكيركم‏ ‏إلى‏ ‏بعيد‏ ، ‏وتحسبون‏ ‏من‏ ‏كلامي‏ ‏بأن عمدتنا‏ ‏كان‏ ‏مشغولا‏ ‏في‏ جلسة ‏للصلح‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏تأدية‏ ‏واجب‏ ‏العزاء‏ ، ‏أو‏ ‏في‏ ‏حضور‏ ‏فرح‏ أو طهور طفل .‏
فكل‏ ‏ما هنالك أنه كان ‏يعد‏ وجبة ‏العشاء‏ ‏لأولاد‏ه ..لا تتعجبوا‏ .. ‏نعم‏ كان يطهوا‏ ليتناول ‏وجبة العشاء‏ وسط أسرته ، ‏لأن‏ ‏الذي لا تدركونه‏ ‏ولا ‏يمكن أن يخطر‏ ‏على‏ ‏بالكم‏ هو أن ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ " ‏واحده‏ ‏ست " .
عندما‏ ‏جاءها‏ ‏الخفير‏ ‏بالخبر‏ ، استولت ‏عليها‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏القلق‏ ‏والتشاؤم .. ‏القلق‏ ‏بالطبع معروف مصدره ، وهو ‏أنها‏ ‏سوف‏ ‏تضطر لترك‏ ‏أولادها‏ ‏بدون‏ ‏عشاء‏ .
أما‏ تشاؤم حضرة العمدة فمنبعه‏ ‏القدر الذي ألقي بجريمة القتل في أول أسبوع من توليها العمدية..
أوفدت‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏الخفير‏ ‏الذي‏ ‏أتاها‏ ‏بالمصيبة‏ ، لينادي لها ‏شيخ‏ ‏الخفر‏‏ ، ‏في حين همت بارتداء‏ ‏جلبابها‏ ‏الأسود‏ ‏الكاسي‏ ، ‏ولفت رأسها وجهها بطرحة من ‏الحرير‏ ‏ ‏ ‏جاءتها‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ .
أما ‏زوج حضرة العمدة ‏وقتها كان‏ ‏يفترش السجادة الممددة‏ ‏في‏ أرضية ‏المندرة‏ ‏بطوله الفارع ، مرتديا سروالا‏ من البفتة ، وصديري جديد بوجه‏ لميع‏‏ ‏فوق‏ فانلة ‏بيضاء‏ ‏ناصعة‏ ‏..بمجرد أن تناهي إليه الخبر ‏تغيرت‏ ‏ملامحه وتبدل‏ ‏مزاجه‏ ‏وعمته‏ ‏موجة‏ ‏من‏ ‏العكننة‏ ‏والغيظ‏ .. ‏فالمصيبة‏ ‏أوقعته‏ ‏هو أيضا في‏ ‏حيرة‏ ‏شديدة‏ ، ‏الواجب‏ ‏‏‏يحتم‏ ‏عليه‏ ترك‏ ‏الأولاد‏ ‏بمفردهم‏ ، ‏بعد أن ‏كادوا‏ يهمون‏ ‏بتناول عشاءهم‏ ‏استعدادا للنوم‏ ، حتى يلحقوا ‏بمدارسهم‏ ‏في‏ ‏الصباح الباكر.
ولكن‏ ‏لأن‏ ‏الساعة‏ ‏تأخرت‏ فمن عادة أهل قريتنا ‏النحررة والخوف على نسائنا حتى ولو كانت عمدة القرية ، فضل زوجها ألا ‏يتركها‏ ‏تروح‏ ‏بمفردها‏ ‏وسط‏ ‏الرجال‏.‏
لم‏ ‏تمرق غير‏ ‏دقائق‏ ‏معدودة‏ ، وكان‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏يقف‏ مزروعا‏ ‏ ‏داخل‏ ‏حوش‏ ‏الدوار‏ ، ‏بجوار‏ ‏مربط‏ ‏البهائم بالضبط .. تتملكه حالة من الحيرة والخوف .. ‏ ‏يتنحنح‏ ‏بصوت عالي ، ويخبط‏ ‏كفا‏ ‏على‏ ‏كف‏ ‏وينادي‏:-
- ‏يا جماعة‏ .. ‏يا حضرة‏ ‏العمدة‏ .. ‏يا‏ ..‏
فجأة توقف عن الكلام .. وأصابته حالة من التلعثم‏ .. ‏احتار‏ ‏بأي‏ ‏اسم‏ ‏ينادي‏ ‏على حضرة العمدة ..
لم‏ ‏يكن‏ ‏شيخ الغفر الوحيد‏ من أهل القرية ‏الذي‏ ‏سقط في دوامة تلك ‏الحيرة‏ ، ‏فكل‏ ‏من‏ ‏حدفه قدره خلال الأسبوع الماضي ‏ ‏بمشكلة‏ أو مشورة ، تستوجب الحضور إلى دوار‏‏ ‏‏العمدة‏ ‏، تجده‏ ‏واقفا في حيرة‏ ‏عند‏ ‏حافة الطريق‏ ‏الزراعي‏ ‏الذي‏ ‏يمر‏ ‏أمام‏ ‏الدوار‏، ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏لديه ‏عشم‏ ‏مثل‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ، يدفعه عشمه ‏ويدفع‏ ‏بوابة‏ الحوش المصنوعة من ‏الصاج‏ ‏ ‏ ، ‏حتى يصل ‏بجوار‏ ‏مربط‏ ‏البهائم‏ ‏ويقف‏ ‏يضرب‏ ‏أخماسا‏ ‏في‏ ‏أسداس‏ ، ‏محتار‏ ‏بأي‏ ‏اسم‏ ‏ينادي .. وحتى لا‏ ‏تتعقد‏ ‏المسألة‏ ‏فقد‏ أبرم أهل القرية فيما بينهم‏ اتفاق ‏غير‏ ‏مكتوب‏ ‏أو‏ ‏معلن‏ بأن‏ ‏ينادون‏ ‏عليها‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏.‏
أخيرا‏‏ انطلقت ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏بجسدها‏ ‏النحيف‏ ‏وقامتها‏ ‏القصيرة‏ ‏وساقيها‏ ‏اللتين‏ ‏لا تختلفان‏ ‏في حجميهما عن‏ ‏ساقي‏ ‏الفراخ‏ ‏.. خرجت وهي تكفن وجهها‏ ‏ذي‏ ‏المعالم‏ ‏الصغيرة‏ ‏بالطرحة ، ‏وبجوارها‏ مشى‏ ‏زوجها‏ ‏بجلبابه‏ ‏الكشمير‏ ‏وشاله‏ الأبيض ‏المستورد‏ ، ‏مشي وهو يشد‏ ‏عوده‏ ‏الرفيع‏ ، ويحبس نفسه فترة حتى ينفخ‏ ‏صدره‏ بارز ‏العظام‏‏ ‏..
بجوارهما‏ مباشرة ‏‏سار‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏بقامته‏ الفارعة ‏ ‏وشاربه‏ الطويل ‏الذي‏ ‏يلفه بعجينة من القمح ، حتى يقف‏ ‏عليه‏ ‏كل‏ ‏طير‏ ‏القرية‏ ‏ولا يسقط‏ ‏، كانت مشيته تحمل رائحة الخيلاء والزهو ، وهو يحرك في إهمال بندقيته‏ ‏التي‏ ‏يحملها‏ ‏فوق‏ ‏كتفه‏ ‏الأيمن‏‏ ، ‏وقد‏ ‏تآكلت‏ ‏أجزاء‏ من‏ ‏جسدها‏ ‏الخشبي‏ ، ‏ومن‏ ‏خلفهم‏ ‏مشي‏ بعض ‏الغفر‏ ببطيء وإرهاق والنوم ‏يداعب‏ ‏جفونهم‏.‏
‏تخلف عن هذا الموكب‏ ‏شيخ‏ ‏البلد‏ ، ‏رفض أن يحضر رغم أن حضرة العمدة أرسلت في أثره ، موقفه ليس وليد هذه اللحظة ، فبعد توليها العمدية‏‏ ‏حلف‏ ‏برأس‏ ‏أبيه‏ ‏ليترك‏ ‏المشيخة‏ ، فهو لا يمكن أن يستمد قراره من‏ ‏واحده‏ ‏ست‏ ‏ولو كانت ‏حضرة‏ ‏العمدة‏.‏
عندما مر‏ ‏موكب‏ ‏العمدة‏ ‏مخترقا ‏الجرن‏ ‏الواسع ، الموجود‏ ‏عند‏ ‏بداية‏ ‏الطريق‏ ‏الزراعي‏ ، الذي يقيمون به أفراحهم وحلقات الذكر‏ ، كانت‏ ‏النسوة ‏المتجمعات‏ ‏أمام‏ ‏عتاب‏ ‏دورهن‏ ، ‏ينظرن‏ ‏لحضرة‏ ‏العمدة‏ ‏بعين‏ ‏من الفخر‏ والانتصار ، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏تلك‏ ‏النظرات‏ مبهمة و‏غير‏ ‏مفهومة‏ لرجالات القرية‏ .. ‏فمن‏ ‏يوم‏ ‏تعيين‏ ‏العمدة‏ ‏والرجال‏ ‏يجمعون‏ ‏على‏ ‏أن‏ ‏نسائهم ‏‏أصبحن‏ ‏يندب‏ ‏في‏ ‏عيونهن ‏الرصاص‏ ، ‏فلم‏ ‏يعدوا‏ ‏يذهبو‏ ‏إلى‏ ‏الغيطان‏ ‏كالمعتاد‏ ، ‏بل‏ أن ‏الست‏ ‏التي‏ ‏لم‏ ‏يسافر‏ ‏زوجها‏ ‏إلى‏ ‏الخارج‏ ، ‏أصبحت‏ ‏تتجرأ‏ ‏وتعايره‏ ‏وتقلل‏ ‏من‏ ‏شأنه‏ ‏ومن‏ ‏كرامته‏ ‏أمام‏ ‏أهل‏ ‏القرية‏ ، ولكن للإنصاف فإن الحسنة‏ ‏الوحيدة‏ ‏التي‏ ‏يراها‏ ‏الرجال‏ ‏الآن‏ ‏في‏ ‏نسائهن‏ ، ‏أنهن‏ ‏أصبحن‏ ‏يمثلن شفعة لا تخيب لدي‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏عند الوقوع في‏ ‏أي مشكلة.‏
بعد أن عبر الموكب الجرن ، أخذت أنوار الشوارع‏ في البهتان ‏‏، ‏فأعمدة الإنارة تنتهي عند مدخل القرية ، والمصابيح‏ ‏دائما ما تتعرض‏ ‏للسرقة‏ ،وعيدان‏ ‏الذرة‏ ‏في الغيطان‏ ‏نمت‏ ‏لدرجة أنها أصبحت قادرة على حجب‏ ‏بقايا‏ ‏الضوء‏ ‏الباهت‏ ‏الآتية‏ ‏من‏ ناحية مئذنة ‏الجامع.
هذه الظلمة دفعت ذاكرة ‏"حضرة ‏العمدة‏ " على تخيل شكل القتيل ، خاصة أنها المرة الأولى التي ترى فيها جثة ، وللإنصاف هي المرة الوحيدة التي ‏يسوق فيها القدر غريقا ناحية القرية .
- هل يمكن أن تكون ممزقة بسكين.
- يمكن تكون مشوهة .
أوضاع عديدة تخيلت فيها الجثة ، وكلما مر بخاطرها سبب أستولي عليها القلق والرعب من مجابهة تلك المصيبة ..‏مع كل خطوة كانت ‏درجة‏ ‏حرارة‏ ‏جسدها ترتفع‏ ‏، فتزداد التصاقا ‏بزوجها‏ ، الذي كان يشعر بخوفها فيهدهد على كف يدها التي ‏استماتت‏ على ذراعه .. ‏أثناء ذلك كان‏ هدير أهل ‏القرية‏ ‏يجيء مختلطا ‏بصفارات أحد ‏الخفراء ‏ ‏القابع‏ ‏بجوار‏ ‏الجثة‏ ، ‏وصوت‏ ‏ميكروفونات‏ المسجد ‏الذي‏ ‏ينبه‏ ‏عن‏ ‏وجود‏ ‏القتيل‏.‏
وصل موكب‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏أخيرا‏‏ ‏إلى‏ ‏المكان‏ المحدد‏ ، ‏وبمجرد‏ ‏أن‏ ‏لمحها‏ ‏الخفراء ‏ ‏قاموا‏ ‏بتفريق‏ ‏الناس‏ ‏الموجودين‏ ‏بجوار‏ ‏الجثة‏ ‏المغطاة‏ ‏بكوم‏ ‏من‏ ‏القش‏ ، حتى يمنحوا ‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ فرصة التقاط أنفاسها ، والتفكير العميق ‏في إيجاد مخرج لتلك الكارثة التي يمكن أن تجلب للقرية برمتها مصيبة السؤال والجواب في المركز ، وما أدراكم بمخبري المركز‏.‏
تعلقت‏‏ ‏كل‏ ‏العيون‏ بها فهي المسئولة الآن عن‏ الربط‏ ‏والحل‏ ‏في‏ ‏تلك‏ ‏المصيبة‏ ‏الصعبة، ‏وحبست‏ ‏الأنفاس‏ ‏ودب صمت مميت ‏.‏
‏- ‏غريب‏ ‏يا حضرة‏ ‏العمدة
قالها‏ ‏أحد‏ ‏الخفراء ‏ ‏الذين‏ ‏كانوا‏ ‏يحرسون‏ ‏الجثة‏ .
‏- ‏جاي‏ ‏مقتول‏ ‏جاهز‏ ‏يافندم‏ .. ‏
شعر ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏بأن الفرصة أصبحت سانحة له‏ ، ‏لكي يبين‏ ‏مدي‏ ‏نباهته ‏أمام حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏وبأنه‏ ‏كبير‏ اللمة ، ‏ويجب‏ ‏أن‏ ‏تعتمد‏ ‏عليه‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏صغيرة‏ ‏وكبيرة بعد ذلك ‏.‏
‏- ‏صحيح‏ يا حضرة العمدة .. ‏ ممكن نشيله‏ ‏ونرميه‏ ‏في‏ ‏الترعة ‏ .. ‏وكدا كدا تيار الميه يحدفه بعيد عن القرية‏ .. ‏ونريح‏ ‏رأسنا‏.‏
لم تتعجل حضرة العمدة في ردها ، فهي تدرك بأن نهاية هيبتها أمام أهل القرية ، يبدأ مع تنفيذ فكرة شيخ الغفر ، الذي تعلم بأنه خبيث ولا ينصح لوجه الله ..
اشتدت‏ ‏الأنوار‏ في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏حول‏ ‏الجثة‏ ‏وسط صمت‏ ‏القبور‏ ‏الذي‏ ‏حل‏ على المكان.. ‏الكل‏ ‏يترقب‏ ‏وينتظر في لهفة الحل‏ ، والحل طال وأمتد .. وحضرة‏ ‏العمدة تروح‏ وتجئ ‏في‏ ‏المكان‏ ‏وهي‏ ‏تفرك‏‏ ‏يديها‏ ، ‏عيناها معلقتان بنظرات‏ ‏زوجها‏ ‏الواقف‏ ‏، تقف ويطول نظرها إليه وكأنها‏ ‏تستحثه‏ ‏على‏ إبداء ‏رأيه‏ ‏، وفجأة لمعت عيناها بالحل ، وفي‏ ‏استعلاء‏ ‏نظرت‏ إلى ‏الجثة‏ المغطاة ‏، وما كادت‏ ‏لسانها المعقود يستجمع قواه وينطق‏ ‏بالحل‏ ‏إلا‏ ‏وسبقه ‏غباء‏ ‏الخفير‏ ، ‏فقد‏ ‏عاجلها‏ ‏برفع‏ ‏القش‏ ‏من فوق‏ ‏الجثة ..
- ‏انظري‏ ‏يا حضرة‏ ‏العمدة
وما‏ ‏أن‏ ‏وقعت‏ ‏عين‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏على‏ ‏الجثة‏ ‏التي أنفصل ‏ ‏رأسها عن الجسد ..‏ حتى ‏دبت‏ بأعلى ‏صوت‏ ‏وسقطت‏ ‏مغشيا‏ ‏عليها‏ ‏.. ووقتها وقعت ‏‏القرية‏ ‏في حيرة ما بعدها حيرة بين‏ ‏الجثة‏ الملقاة وحضرة‏ ‏العمدة‏ ‏التي تتمدد بجوارها ، من‏ ‏يومها‏ وهي راقدة بلا حراك على السرير ،‏ ‏لا يمكنها الحديث‏ مع ‏أحد‏ ، ‏حتي زوجها منع الناس عن رؤيتها‏ ، ومن ليلتها والقرية منقسمة على نفسها‏ بين ‏شامت‏ ‏وبين‏ ‏مشفق ..

حب للأبد





الحب إحساس ينمو ..
يلهو .. يتنفس ..
يعيش لآخر العمر ..

حب للأبد

يوم الخميس الماضي انهارت أعصاب الأستاذ " محب " ، مما دفعه للوقوع في المحظور.. الشائعات تطايرت في كل مكان بأن الجان مسه ، وبدأ يهذي بأصوات مرتفعة كلما خلى بنفسه في حجرة النوم عقب صلاة عشاء ، حجرة كئيبة على القلب ، تثير في نفوس كل من يراها الكآبة والسأم ، دهان حوائطها الرمادي بهت وتهاوت أجزاء منه ، وشباكها الوحيد مكسو بستارة من الستان الأسود وسجادها عتيق ينفث رائحة عتة.
كلما دخل الحجرة كان يصر على إغلاق بابها من الداخل ، ينحشر بجسده الضخم داخل مقعده الهزاز ، يلقي برأسه إلى الوراء .. يتحدث بصوت مرتفع متهدج ، صوت مرتعش يوحي لكل من تضطره الظروف ويقصد الممر المؤدي لدورة المياه ، بأن الأستاذ يتوسل لشخص من لحم ودم يقطن معه الحجرة الخاوية.. بعض المتلصصين من أهل البيت كانوا ينتهزون خروجه ويتسللون داخلها , يقلبون في كافة أرجائها رأسا على عقب بحثا عن هذا الشخص ..
كان معروفا بين الناس أن الأستاذ لديه خلق رفيع وعقل راجح ، كريم في بيته ومكتبه مفتوح لكل من هب ودب ، لحل المشكلات ونفح ما به من نصيب ، ولكن ما جرى له بعد ذلك أوحي للناس بأن عقله ولى وراح بلا رجعة.. ولأني صديق عمره منذ أربعين أو بالأحرى تسعة وثلاثين عاما وأقرب الأشخاص إليه ، فأنا أدري نفر بكل ما حدث له.
ولكى أكون صادقا معكم ، اجتهدت في صده عن إتمام ما كان ينوي تنفيذه ، ولكن لم أداوم لأنه عنيد .. وحتى لا نتوه ونتخبط في القيل والقال ، فما كان ينويه الأستاذ نفذه يوم الخميس الماضي ..
في صباح ذلك اليوم وكالعادة أفاق مبكرا ، نزل درجات السلم على مهل مستندا على عصاه ، مسح بنظره أركان الحديقة التي ذبلت أشجارها قبل أن يلتهم إفطاره ، بعد فترة شد جسده المنهك ، تغلب على الألم المنتشر في ساقه اليمني ، وبصعوبة وصل إلى حجرة النوم ، سكب في فمه كمية من أدوية الضغط والسكر والقلب الذي يعاني منه.
بعد ساعة خرج مرتديا حلة سوداء ، يزينها قميص أبيض وكرافتة يعكر بياضها نقاط سوداء مبعثرة ، حلة مستوردة ابتاعتها له زوجته منذ أربعة شهور.
قرر أن يمر على الحلواني ، الذي تتعامل معه زوجته من زمن غابر ، كان المكان يغص بالزبائن ، ابتاع منه تورته مكسوة من الخارج بطبقة من الشيكولات والمكسرات وراح للبيت ..
في غبشة هذا اليوم وبعد أن خفتت حدة الشمس الحارقة ، أمر السائق بأن يقله إلى نفس المكان الذي يتردد عليه بصورة أسبوعية لمقابلة زوجته ، مكان عشوائي غير منسق، بيوته بسيطة فقيرة مبعثرة ، فرض على الزوجة أن تقطن به مع والديها..
- ارجع وانتظرني في العربة
وجه الأستاذ كلماته إلى السائق ، بعد أن ترك من يده باقة الورود والتورتة التي كان يحملهما على مكان يشبه المصطبة.
حتى هذه المرحلة لا توحي تصرفات الأستاذ بأنه فقد عقله ، ولكن ما جاء بعد ذلك هو الأهم ، جوهر ما كان يصر على تنفيذه ، هو إقامة عيد ميلاد زوجته وسط هذا المكان الموحش .. أصر لأن العام الفائت لم يستطع الاحتفال معها ، كان يعاني من أزمة مرضية دخل على أثرها المستشفي ، وجاء اليوم ليعوضها بعد أن تخطت عامها السابع والستين..
كاد النهار يتلاشى ، لفحت تجاعيد وجهه نسمة رطبة .. شاردة .. غريبة عن جو شهر أغسطس القائظ .. أعقبتها دفقات أخري كادت تطفيء الشمعة التي نبتت من داخل التورتة..
ما فعله " محب " لم يكن مفاجأة لزوجته ، كانت فرحتها عارمة ، وضحت في رعشة شفتيها ، وفي لمعة عينيها .. اقتربت منه .. شعر بقبلة شوق تطبع على خده الأيسر .. انتشي .. أحس فرحة .. كان يتمني أن يشعر بها في بيتهما بعيدا عن هذا المكان ، الذي ينفث كآبة وصمت وأنفاس متجمدة عميقة ، مكان كله طنين ذباب أخضر لزج ، و كلاب ضالة، وشخشخة أوراق سنط يتدلى من أفرعه صمغ كثيف بني داكن.
في شوق نظر " محب " ناحية زوجته ، بين ثنايا وجهه تدحرجت دموعه دون سيطرة ..
- كل سنة وأنت طيبة يا حبيبتي
انتزعت تنهيدة عميقة من بين ضلوعها ، ألحقتها بابتسامة تحمل شوقا عارما ، أشاعت بين الأهل الذين التفوا حولهما موجة من البهجة .
مدد" محب " ساقيه فوق قطعة من القماش افترشت الأرض، أرخى على يمينه باقة الورد التي نسجها من المحل الملاصق لناصية الشارع الذي يعمل به ، وبثغر باسم سألها:-
- فاكرة أول يوم لمحتك به .
ولكن صمتها المتكلم وابتسامتها المنحوتة في قسمات الوجه الناعم ، كانت كفيلة بالرد عليه ..
- حينما هللت من قريتي للعمل في الجريدة ، سكنت أمام شباك حجرتك .. شغفت بك من أول نظرة ، رغم تهدل خصلات شعرك على وجنتيك بطريقة غير مرتبة، وتناثر رغوة الصابون على ملابسك ، وتساقط مياه الغسيل من أطراف أكمام جلبابك .. حينها رفعت عينيك بعد الانتهاء من تمديد الملابس على حبل الغسيل ،فوجئت .. حاولت باستماتة إخفاء نفسك.
استفاق الأستاذ وقطع حديثه في ضيق ، بسبب ذبابة لزجة خضراء ، حامت مرات حول وجهه .. طاردها بيديه .. وبعد فترة تعاطفت معه وطارت مبتعدة عنه ..
- أنت فاكرة اليوم التالي .. تسمرت في الشباك بعد عودتي من العمل ، رغم المرض والرعشة الشديدة وقطرات العرق التي كانت تتهادى على جبيني .. وقتها فررت بمجرد أن لمحتيني..
فجأة قطع الأستاذ كلماته ، بعد أن مرق بجواره كلب ضال يتدلى من فمه رغوة ولسان بفضل قيظ الجو ، وقف شاخصا في استغراب وتعجب يحدق في وجوه الحاضرين.. ثم جمع كل قوته وأطلقها في موجة نباح .. نباح متقطع أزعج الزوجين ، وأزاح النشوة التي كانت تعتري الضيوف ، فهم يجلسون ساهمين منذ قدوم الأستاذ ، لم يحاول أحدهم أن يقطع الخلوة بين الزوجين ..
- أتذكر ذلك اليوم .. حينما داهمتني الأزمة القلبية.. بعد أسبوع بالكمال والتمام ..فوجئت بك تتطلعين إلي بنظرات تملؤها اللهفة والقلق ، وأندفعتي بدون شعور :-
- حمد الله على سلامتك يا أستاذ
في لهفة وبدون شعور رددت الكلام عددا من المرات ، كان الخوف والرعب واضحا على ملامحك .
- بحبك .. بحبك
بمجرد سماعك الكلمة هرعتي بعيدا .. كأنك لم تصدق بأن هناك من يحبك .. في اليوم التالي طلبت منك مقابلة والدك ..حاولت الهرب بسبب رفض والدك،لأن قصة مرضي بالقلب انتشرت في الشارع الذي نقطن فيه..
ولكن حبي الذي تفجر أزاح أمامه كل الأوهام .. الخوف .. رفض والدك.. تزوجنا وعشنا أجمل أيام عمرنا .
جاءت دفعة هواء أخري رطبة ، لم يعرف مصدرها .. أطفأت الشمعة ..
- تتذكرين أول عيد ميلاد لك .. وقتها كانت عيناك تلمعان بالفرحة .. نفس الإحساس أشعر به الآن .. يديك المرتعشتان .. ضمتك التي تخرجين فيها حرمان السنين .. ابتسامتك التي لم تفارق شفتيك المنحوتتين ووجهك البشوش ..
بصعوبة أخرج " محب " عود الثقاب من سترته ، حاول إشعال الشمعة وهو يتنهد وينظر للأفق البعيد ، ودموع الفرحة لا تفارق عيناه ، وفي رعشة شفتاه قال لها ..
- لم تستوعب الأرض حجم هذه الفرحة .. حلقنا معا.. خططت حياتي التي كانت بلا طعم ..كنت تجلسين بجواري على السرير تقرأين لي .. دفعتيني للنجاح حتى أصبحنا مضربا للمثل ..
في هذا اليوم كان الذباب كثيفا ولزجا ، أخذ يطن .. يلتصق .. يضع الأتربة ومخلفاته فوق التورته .. ولكن الزوج لم يكن يعيره أي اهتمام ، لأنه كان مأخوذا بزوجته وذكرياتهما معا..
- كنت تنتظرين كل يوم على باب الشقة ، بعد أن تلمحيني من النافذة وأنا قادم ..
- يا بيه لا تنظر وأنت طالع ناحية شقة الست المايعة .
- كنت أضحك من كثرة غيرتك ، رغم زيادتها في أحيان كثيرة ..
- هي واقفة لك في الرايحة والجاية ليه.. أنت بينكما حاجة .. قول .. أعترف .. أنا بأشوفها وهي بتضحك ليك ..
- يا حبيبتي بلاش أوهام هو في حد غيرك ممكن قلبي يراه .. أنت الوحيدة التي ملكتيني ..
- كان حبنا مضرب المثل بين الأهل والأصدقاء ، هل تتذكرين عندما
جاء محمد صديقنا في الساعة الثالثة صباحا ، غضبان جدا ومنفعل وبدون أحم ولا دستور أنفجر فينا ...
- ممكن تبقوا تخلوا حبكما بينكما دون أن تشعر به زوجتي ..
- ليه خير الله ما أجعله خير ..
- أتخنقنا الليلة بسببكما وتركت لي المنزل والأولاد .. عاوزاني أحبها نصف ما بتحبوا بعض ... هأ هأ
- أنت عارفة .. أنا اليوم متأكد بأن الناس تتهامس وتتغامز على وتقول مجنون .. ولكن رغم ذلك حزمت أمري بأن آتي لأحتفل بعيد ميلادك.
- أنا أتذكر السنة الماضية حينما أتيت بالتورتة إلى المستشفي ، حيث كنت أرقد من مرضي المزمن .. رغم إجهادي ولكن فرحتي بك كانت أضخم .
- كل سنة وأنت طيبة يا أرق حبيبة .. هل تتذكرين آخر عيد ميلاد لك .. كنت زعلان جدا منك .. بسبب عدم اعترافك بخطئك ..
- يومها كنت في عملي وقرأت حوارك في إحدى المجلات عن حياتنا ... يومها لم تذكر دورك في نجاحي .. ليه ..
- لا تجادلي .. أنت أخطأت .. دورك في حياتي كل الناس تعرفه ..
المهم .. كل سنة وأنت طيبة .. أنت جميلة كما رأيتك أول مرة .. لم يختلف قوامك الممشوق .. أو وجهك وروحك الجميلتان ..
فجأة إنهمرت دموع الزوج .. سامحيني لا أستطيع أن أقبلك كالعادة .. أو أمسك نفسي عن البكاء في يوم عيد ميلادك .
بكي بحرقة حتى غامت عيناه .. بكي لدرجة أنه فقد الشعور بنفسه إلا بعد أن شعر بيد تمتد إلى كتفه ..
- الجو ليل يا أستاذ
استند الاستاذ على يد سائقه ، ترك زوجته بمفردها وسط ابتسامة حزينه .. إبتسامة وداع من داخل قبرها ..
في تلك الليلة لم يتحدث إلى أحد ، جاءته في الحلم .. تقابلا.. تجمعت روحهما كما كانت في الحياة ..

الثلاثاء، 17 يونيو 2008

رغبة إمرأة ميتة

رغبة إمرأة ميتة في جردية الجمهورية

مجموعة رغبة إمرأة ميتة

المجموعة القصصية الأولي " رغبة إمرأة ميتة " بجريدة الأهرام المسائي

مدينة الحريم في جريدة الأهرام

خبر عن مجموعة مدينة الحريم بجريدة الأهرام

مدينة الحريم بالإنجليزية في الأهرام ويكلي

مدينة الحريم في الأهرام ويكلي

قصة ضياع العمر بجريدة الوفد


تم نشر قصة ضياع العمر من مجموعة مدينة الحريم بجريدة الوفد

جائزة الصحافة العربية


صورة من جائزة الصحافة العربية هذا العام 2008




جريدة الجمهورية

الثلاثاء، 1 أبريل 2008

‏مدينة‏ الحريم


قد‏ ‏تعتريكم ‏أطياف وأمواج ‏من‏ ‏الاستغراب‏ والاستهجان ‏حينما ‏تقرؤون‏ ‏حكايتي , ‏ وقد‏ ‏يترك البعض منكم لخياله الحبل على الغارب ، ليستحوذ عليه شعور بأنني عرافة مخاوية الجان‏.
لذا ‏‏استحلف‏ ‏بالله‏ كل من يتصفح حكايتي ، بعدم التسرع والتمهل حتى يهضمها وينتهي من قراءتها بالتمام ، بعدها يمكن إطلاق الأحكام مثل بقية الناس.‏
معذرة‏ ‏إن‏ ‏كانت قصاقيص‏ ‏من قصتي تطايرت وتناهت إلى أسماعكم , ‏لكن ‏رجائي‏ ‏الوحيد‏ ‏أن‏ ‏تسمعوا ‏تفاصيلها بالكامل مني ‏.. قد تكون هناك بضعة تفاصيل ‏مملة أو يراها البعض ضد مصالحه .. ‏لذا لا تضعوا أصابعكم في آذانكم‏ ‏من‏ ‏البداية‏ ‏مثل‏ ‏الآخرين‏ ، ‏وتضربوا‏ ‏كفا‏ ‏بكف‏ , ‏وتتحسروا‏ ‏علي‏ ‏ست‏ ‏العاقلين‏ ‏التي‏ جنت‏.‏
‏أبدأ حكايتي من وصف المكان الذي وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏بداخله واقفة في حيرة من أمري وحيدة ‏.. قد يتبادر إلي أدمغتكم استفسار عن كيفية وصولي إلي هذا المكان ، ولكني لا أعرف‏ حتى الآن‏ , ‏من المؤكد‏ ‏أنني‏ ‏انحدرت‏ ‏إليه‏ من‏ احد الأطباق الطائرة التي تعرفنا عليها من حكايات جدتي ‏, ‏أو‏ ‏جئته‏ ‏زاحفة‏ ‏عبر‏ ‏نفق‏ ‏مظلم‏ ‏تترسب‏ ‏علي‏ ‏جدرانه‏ ‏أملاح‏ ‏ورطوبة‏ ‏وريم‏ ‏أخضر‏.‏
‏ ما يهمني حشوه في رءوسكم ، أنني فوجئت بوجودي وبقدرة‏ ‏قادر‏ ‏منتصبة مثل‏ ‏خيال‏ ‏المآتة‏ , ‏في‏ ‏مكان‏ ‏مقفر مغطي بطبقة من الرمال الحمراء‏.. مخيف‏ ‏موحش‏ , ‏بحثت‏‏ ‏لكم عن‏ ‏ألفاظ‏ ‏توحي ‏وتعينكم على تخيل‏ ‏غرابة شكله ‏فلم‏ ‏أجد‏ .. أجهدت نفسي مرارا حتى ‏أعياني‏ ‏وأرهقني‏ ‏البحث لوصفه ، فحاولوا‏ ‏أنتم‏ ‏أن‏ ‏تتخيلوا هذا المكان..‏ ضباب‏ ‏كثيف‏ يكسوه .. كثافته ‏أشد‏ ‏من‏ ‏شبورة‏ الصيف التي تسدل أهدابها علي الطرقات الزراعية في الصباح الباكر‏ , وآهات‏ وآنات ‏عميقة‏ ‏تدوي , ‏أما الإضاءة فهي‏ ‏باهتة‏ ‏مخنوقة‏ ‏لا تشبه‏ ‏ضوء‏ القمر‏ ‏أو‏ ‏أشعة‏ ‏الشمس‏, ‏ورمل‏ ‏غريب‏ ‏أحمر‏ ‏قاني‏.‏
ساعتها تملكتني‏ ‏رعشة خوف‏‏ ‏في‏ ‏أطرافي , ‏علي أثره‏ ‏دب‏ ‏مغص‏ ‏شديد‏ في‏ ‏قلبي , ‏وصكة‏ مسموعة‏ ‏في‏ ‏أسناني‏.‏
اندفعت كالمجنونة ‏أروح‏ ‏وأجئ‏ ‏بسرعة‏ ، وقدماي تنغرسان ‏حتى الكعبين داخل‏ طبقة الرمال‏ ‏ حتى داهمني الإرهاق ,‏ كنت ‏أروح‏ ‏وأجئ‏ ‏مثل‏ ‏كلب‏ ‏قرصه الجوع‏ , ‏ولكن‏ ذاكرته خانته وفقد ‏مكان‏ ‏العظمة‏ ‏التي‏ ‏كان قد خبأها‏.
بعد فترة وجيزة ‏لمحت‏ من بعيد ‏شيخ‏‏ ‏أحني‏ ‏الزمن‏ ‏ظهره ، ‏يجلس‏ ‏فوق‏ ‏صخرة‏ ‏صغيرة‏ , ‏يحدق ‏بنظره‏ الضعيف داخل‏‏ بؤرة بها‏‏ ‏أكوام من الحصى‏ ‏,‏ ‏بعصا‏ غريبة ‏الشكل أخذ يداعبها ‏, و‏فوق‏ ‏تجاعيد وجهه‏ ‏النحيل المغطي‏ ‏بنمش‏ ‏بني‏ , استقر ‏تعبير‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ المعالم ، ‏لا ينم عن‏ ‏ابتسامة‏ ‏ولا حزن‏ ‏أو‏ اندهاشة ‏أو‏ ‏يقين‏ ‏, ‏أسفل‏ ‏عينه‏ ‏اليمني‏ مباشرة ‏تصاحب وجهه رعشة بصورة ‏واضحة‏ ‏ومستمرة‏ .. ‏هل‏ ‏هي‏ ‏رعشة‏ ‏خوف‏ ‏؟‏! ‏أم‏ ‏رعشة‏ ‏قلق‏ ‏؟‏! ‏لم‏ ‏أتبين سببها بدقة‏ ‏.‏
كان يرتدي سترة‏ غريبة ‏لم‏ ‏أر‏ لها مثيلا‏ ، ‏إلا‏ في السترات‏ ‏التي كان يرتديها رعاة‏ ‏البقر‏ ‏في‏ ‏الأفلام‏ ‏الأمريكية ‏, ‏كانت‏ ‏طويلة‏ ‏من الخلف عن‏ ‏الحد‏ ‏المعروف‏ عنه الآن ، يزينها خطوط طولية وصفان‏ من الأزرار‏ النحاسية‏.‏
‏حينما تنبه‏ ‏العجوز‏ ‏إلي وجودي‏ , ‏نهض‏ في تثاقل ‏.. مشي‏ ‏ناحيتي‏ ‏بخطوات‏ ‏بطيئة‏ تناسب أقدامه‏ ‏الضعيفة‏ المرتعشة‏ التي تكاد ‏تحمله‏ ‏بالكاد‏ , ‏ولولا‏ تلك ‏العصا‏ ‏الغريبة المزركشة‏ ‏التي‏ ‏يستند‏ ‏عليها‏ , لإنكفأ‏ ‏علي‏ ‏وجهه‏ ، عصا صنعت‏ ‏خصيصا‏ ‏من‏ ‏أجله‏ , ‏‏شكلها‏ ‏يصيبك بالرعب ‏نحتت‏ ‏علي‏ ‏هيئة‏ ‏حية‏ ‏سوداء‏ ‏يتدلى منها ‏لسان ‏أحمر.‏
بمجرد أن تنبه سارع برسم‏ ‏ابتسامة‏ ‏عريضة‏ علي‏ ‏وجهه ، من الوهلة الأولى‏ توحي لك ‏بأنها مصطنعة‏ ‏وتحمل عتابا‏ , كانت كافية بأن ‏‏تدفعني‏ ‏للإحساس بالتوجس والريبة‏ ‏منه‏ , ‏ولكن شهادة لله فقد انتابني شعور بأن‏‏ ‏تقاطيع‏ ‏وجهه‏‏ ‏مألوفة لي ..
‏- ‏لماذا‏ ‏تأخرت ‏‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏ ‏؟‏!‏
في‏ ‏لعثمة‏ ‏واضحة رددت عليه ‏:-‏
‏- ‏هل‏ ‏كنت‏ ‏تنتظرني‏ ‏؟‏!‏
‏- ‏بلي منذ‏ ‏فترة‏ ‏طويلة‏ , ‏ألم‏ ‏تقرئي‏‏ ‏الدعوة‏ ‏الموجهة‏ ‏إليك‏ ..
أشار بسبابة يده اليسري تجاه الملف‏ الذي أحمله ، ملف ‏بلاستيك لونه أحمر‏ .. لم أتوان لحظة في فتحه والبحث‏ ‏بين‏ دفتيه‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الدعوة‏, ‏‏قرأت‏ ‏منها‏ ‏الجزء العلوي حتى‏ ‏وصلت‏ ‏إلي‏ ‏اسمه‏ المدون ،‏انعقد‏ ‏لساني‏ ‏عن الكلام وشعرت بتضخم في أذني ، وأصوات من الدبابير‏ والنحل تطن بداخلها‏.‏
لم أصدق مقلتي .. ‏قاسم‏ ‏أمين في انتظاري‏ ‏بشحمه‏ ‏ولحمه‏ .. في ‏مكاني‏ ‏ تسمرت‏ بطريقة‏ ‏كان‏ ‏ينقصني‏ ‏فيها‏ ارتداء ‏التاج‏ ‏حتى أتحول إلي‏ ‏الملكة نفرتيتي‏ .. توهم‏ ‏في ‏صمتي‏ ‏بأنه ‏إنصات‏ ‏إلي‏ ‏حديثه‏ , ‏فراح‏ ‏يتحدث‏ ‏ويتكلم‏ ، ربما ما كان‏ ‏يشغل‏ ‏بالي‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ , ‏هو وجود‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏في‏ مثل ‏هذا‏ ‏المكان‏ ‏الموحش‏ , ‏وما بالي‏ ‏بالمدينة‏ ‏التي‏ ‏يدعونني‏ ‏إليها‏ ‏؟‏!‏
‏أخذ النهار في التلاشي , ‏انكسرت الإضاءة داخل المكان ، مكث يرغي وأنا أنصت ، حتى‏ انتزعتني‏ ‏‏منه مفاجأة‏ ‏أشد‏ ‏، خرج‏ ‏علينا‏ ‏شخص غريب الشكل ، شق‏ ‏العتمة‏ بعضلاته النافرة والشعر الكثيف الذي يضرب جسده العاري ، ‏من النظرة الأولي قد تحسبونه قد سقط من‏ ‏القرون‏ ‏البدائية‏ , ‏ذو‏ ‏طراز‏ ‏انمحي‏ ‏وأصبح‏ ‏من‏ ‏الحفريات‏, ‏فهو‏ ‏أقرب‏ ‏ في مخيلتكم‏ ‏إلي‏‏ ‏العبيد‏ ‏الذين نراهم في الأفلام ، ‏كانت‏ ‏تجلبهم ‏الملكة‏ ‏كليوباترا‏ ‏أو‏ ‏شجرة‏ ‏الدر‏ ‏ليحملونهما‏ ‏فوق‏ الأعناق‏ ‏علي كرسي‏ ‏من الخشب, ‏ليطلن‏ علي ‏رعاياهن .‏
خرج علينا بشعر أشعث‏ ‏ , وجسده‏ ‏فارع‏ .. ‏ممتلئ‏ .. ‏شبه عار ، ‏ووجه صارم‏ ‏عبوس‏ ‏عاري من الإحساس, ‏ونظرات ‏باردة‏ ‏متحجرة‏ ‏.
أتجه هذا النفر ناحية قاسم أمين ، في خطوات محسوبة وموحدة الخطى ، كأنه إنسان آلي مبرمج بعناية ، مد يده الغليظة وسلم‏ في ترحاب واضح ، وسط ابتسامة متبادلة بينهما ‏، ‏لمحت ‏علي‏ ‏وجه‏ ‏هذا‏ ‏الثور‏ ‏نفس‏ ‏الرعشة‏ ‏الموجودة‏ ‏أسفل عين‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏.‏
أدرك قاسم‏ ‏مدي الخوف الذي يخالجني‏ ‏من‏ أثر رؤيتي لهذا‏ ‏الثور‏ , ابتسم ‏ناحيتي‏ ‏لكي ‏يهدئ‏ ‏من‏ ‏روعي‏ , قبض‏ ‏علي‏ ‏يدي‏ بشدة ‏وقال:-
- لا ترتعد ‏فهي‏ ‏حارسة‏ المدينة .. ‏جاءت‏ ‏لترافقنا ‏إلي‏ ‏بيت‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏.‏
بعد أن تعرفت علي طبيعة هذا الثور ، امتزج ‏الخوف‏ لدي ‏بقشعريرة‏ ‏وتقزز‏ ‏من‏ ‏شكلها‏ ، كادت أمعائي تتقطع من مغص كان يدب بها ، كلما نظرت تجاهها وهي تعبر بنا‏ ‏ساحة‏ واسعة , ‏وقاسم أمين يتحرك ببطيء متعلقا بيدي اليمني حتى‏ ‏وصلنا‏ ‏إلي‏ ‏مدخل‏ ‏المدينة‏.‏
داهمتني دهشة غريبة من شكل المدينة‏ ‏فهي غير‏ ‏مدينتنا‏ ، ‏مبانيها‏ ‏تقف‏ ‏بلا‏ ‏تفاصيل‏ ‏بلا أبواب‏ ‏ولا شبابيك‏ , ‏شوارع ‏ضيقة‏ ‏خانقة‏ تتصاعد‏ ‏في‏ ‏بعض‏ ‏أجزائه ‏وتنحدر‏ ‏فجأة‏ ‏في‏ ‏أماكن‏ ‏أخري‏ , وعلي‏ ‏جانبي كل شارع يجري‏‏ ‏‏ماء‏ ‏لونه‏ ‏أحمر‏ ‏تتصاعد منه رائحة‏ ‏خمور‏ داخل ‏قناة، رائحة كنت أشمها في كافة الشوارع والمباني ، نفاذة تكاد تسكر قاطنيها , ‏تتجمع‏ ‏حولها‏‏ ‏الحارسات‏ ‏حاملات كئوس‏ ‏من الفضة ، يملأنها ويشربن‏ ‏.‏
كان هناك صدي لأصوات‏ ‏ضرب‏ ‏ومشاجرات‏ ‏وآهات‏ تحملها تيارات الهواء إلي آذاننا ، كانت تتردد في‏ ‏كافة شوارع‏ ‏المدينة‏ ‏, ‏ومن وقت لآخر كان هناك رجال‏ ‏ونساء‏‏ يشبهن الرجال والنساء في مدينتنا ‏يمرون‏ ‏بجوارنا مكبلين ‏بسلاسل‏ ، وقد ارتسمت علي وجوههم علامات من القرف والتقزز , وبانت علامات التعذيب علي ملابسهم الممزقة ، ووجوههم المصابة بكدمات زرقاء ودماء ناشفة ، كانوا مقيدين بجنازير يمسك ‏بأطرافها‏ حارسات‏ المدينة.‏
لم‏ ‏نمش‏ ‏كثيرا‏ ‏حتى‏ ‏بلغنا‏ ‏دار ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ , كان لونها من الخارج أحمر ، وهو لون يميزها عن ألوان بيوت المدينة الزرقاء ، عندها‏ انشق ‏الحائط‏ ‏عن‏ ‏باب‏ ‏واسع‏ , دلفنا ‏إلي‏ ‏حجرة‏ ‏رغم‏ ‏ضيقها‏ ‏الواضح‏ , ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏تبدو‏ ‏واسعة‏ ‏لقلة‏ الأثاث ‏الموجود‏ ‏بها‏ , ‏وفي‏ ‏الجانب‏ ‏الأيمن‏ ‏منها‏‏ ‏لمحت‏ ‏بابا‏ ‏آخر‏ ‏موارب‏ ‏، يتسرب‏ ‏منه‏ ‏ضوء‏‏ ‏خافت ،‏ ‏وخيال‏ ‏لشخص‏ ‏يروح‏ ‏ويجئ‏ ، ‏وصوت‏ اصطدام ‏أكواب وملاعق ورائحة‏ ‏نفاذة‏.‏
‏استقبلتنا‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏بابتسامة‏ ‏تشبه‏ إلي حد قريب ‏ابتسامة‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ , ‏من‏ ‏الوهلة ‏الأولي‏ ‏أدركت‏ ‏سبب‏ ‏اندهاش‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏حينما ‏قابلني في الساحة الخارجية‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ ،‏ ‏فقد بهره‏‏ ‏التشابه‏ ‏في الشكل الذي‏ ‏يجمع‏ ‏بيننا, ‏ولولا‏ ‏الشعر‏ ‏الخفيف‏ ‏النابت‏ فوق شفتها العلوية ، ويخط لها شنب خفيف , ‏وشعرها‏ ‏الأبيض‏ ‏المنقوش‏ , ‏والنظارة‏ ‏السميكة‏ المتهاوية علي أرنبة أنفها المدبب ‏، التي‏ ‏تضفي‏ ‏عليها‏ ‏مسوح‏ ‏الراهبات‏ ، ‏لولا‏ كل ‏ذلك‏ ‏لفشلت‏ ‏أنا‏ ‏الأخرى‏ ‏في‏ ‏معرفة‏ ‏الفرق‏ ‏بيننا‏ , ‏والشئ‏ ‏الأغرب‏ ‏أنني لمحت ‏نفس‏ ‏الرعشة‏ ‏الموجودة‏ ‏عند‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏وعند‏ ‏الحارسة‏ ‏موجودة‏ ‏عندها‏.‏
‏ استقرت بنا الجلسة‏ ‏في‏ ‏منتصف‏ ‏الحجرة‏ , ‏تحت‏ ‏إضاءة‏ ‏مصابيح‏ ‏قوية‏ ‏ذات ألوان حمراء‏ موجهة إلي عيوننا , ‏تناولت ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ الملف الذي أحمله ، قلبت بين‏ ‏أوراقه , ‏تعرفت علي محتوي الخطبة‏ ‏التي‏ ‏سألقيها‏ ‏خلال‏ ‏احتفال‏ المدينة , ‏وكان‏ ‏تأثير حروفها ‏واضحا‏ ‏علي‏ معالم ‏وجهها‏ ‏المجعد‏ , ‏وفي‏ ‏كلمات‏ ‏المدح‏ ‏والثناء‏‏ .
بينما كنت أفرك يدي بقوة في انتظار الانتهاء من قراءة خطبتي ، ‏دقت‏ ‏‏الرئيسة ناقوس‏ ‏موضوع‏ في إهمال‏ ‏علي‏ ‏منضدة ‏صغيرة‏ ‏من‏ ‏الحديد ، أدركت‏ ‏من‏ ‏تحرك‏ ‏الخيال‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ تخاطب‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ‏الموجود‏ ‏في‏ ‏الحجرة‏ ‏الملاصقة‏ .
‏‏في‏ ‏الغالب‏ ‏الأعم‏ ‏ ‏أنه‏ ‏مطبخ‏ , خرجت‏ ‏من‏ ‏داخله‏ ‏سيدة‏ , ‏ شكلها بشع ‏ ‏أصابتني‏ رؤيتها من الوهلة الأولي بالقيء‏ ‏والغثيان‏ ‏, ‏والذي‏ ‏لا أرغب في‏‏ ‏تذكره‏ ‏الآن‏ , ‏ولكي تشعرون بما أصابني تخيلوا‏ ‏ساقين‏ ‏من‏ ‏عيدان‏ ‏البلوط‏ , ‏البارز منه ‏شوك‏ ‏وشعر‏ ‏كثيف‏ ‏فيكون‏ هذا ‏ساقيها‏ , ‏وماسورة‏ ‏مدببة لدبابة‏ ‏أكلها‏ ‏الصدأ‏ ‏فتكون‏ هذه ‏بطنها‏ ‏التي‏ ‏تسبقها‏ , ‏وشقة‏ ‏بطيخ‏ ‏نزع‏ ‏من‏ ‏داخلها‏ ‏اللب الأسمر ‏ , ‏فيكون‏ ‏ذلك وجهها‏ ‏الذي‏ ‏تظهر‏ ‏عليه‏ ‏معركة‏ ‏قديمة‏ ‏للجدري‏ , ‏أما‏ ‏عودها‏ ‏فكان‏ ‏مثل‏ ‏عود‏ ‏القصب‏ ‏الذي‏ ‏انتزعت‏ ‏منه‏ ‏الزعزوعة‏.‏
خرجت‏ ‏علينا‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ ‏من المطبخ ، تسبقها‏ ‏بطنها‏ ‏وصينية‏ ‏مرصوص عليها‏ ‏ثلاثة‏ ‏أكواب‏ من الزجاج الأحمر القاني , ‏تناول ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏ورئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏كوبيهما‏ , ‏ومدت‏‏ ‏الصينية‏ جهتي , ‏‏ترددت‏ ‏في‏ ‏مد‏ ‏يدي‏ ناحية الكوب ، لأنني لا أقوي علي تحمل الرائحة‏ ‏الغريبة‏ التي كانت تتصاعد من هذا الكوب ، رائحة ‏أقرب‏ ‏إلي‏ ‏الشيح‏ ‏الذي‏ ‏نستخدمه‏ ‏لطرد الثعابين من بيوتنا ‏، شعرت‏ ‏بذلك‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ , ‏فابتسمت‏ ‏وقالت‏ :-‏
‏- ‏لا تخافي‏ .. ‏اشربي‏ ‏يا شيخة‏ .. ‏اشربي‏ ‏فزوجي‏ ‏يعتبر‏ ‏أنظف‏ ‏رجل‏ ‏في‏ ‏رجال‏ ‏القرية‏ ‏في‏ ‏شغل‏ ‏البيت‏.‏
بمجرد‏ أن تعرفت علي‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ الحامل‏ ‏رجل‏ , ‏خارت قواي و‏غصت نفسي ودفعت إلي‏ ‏القيء‏ المستمر , ‏وغامت عيناي وسقطت‏ ‏مغشيا‏ علي ، حينما استيقظت تساءلت :-
- هل الرجال يمكن أن يحملوا
ولكن استفساري قوبل بصمت يحمل استهجانا ، ‏خرجنا‏ ‏نحن‏ ‏الثلاثة‏ ‏قاصدين‏ ‏الساحة‏ الرئيسية للمدينة ‏التي‏ ‏تجري‏ ‏فيها‏ ‏الاحتفالات‏.‏
تعلق‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏في يدي اليمني‏ ، وبجوارنا ‏مشت رئيسة المدينة تحيط بها حارساتها ، ولكن حدثت لي مفاجأة ونحن‏ ‏نواصل السير‏ ‏في‏ ‏الشارع‏ ‏العمومي‏ ‏المؤدي‏ ‏إلي‏ ‏ساحة‏ الاحتفالات .. ‏استرعي‏ ‏انتباهي قيام‏ ‏جمع‏ ‏غفير من‏ ‏الحارسات‏ ‏يقدن في الجنازير بضع‏ ‏رجال‏ ‏ونساء‏‏ , ويقمن‏ ‏بملء‏ ‏الكئوس‏ ‏من‏ ‏القنوات ‏الجارية‏ ‏بجانبي ‏الشارع‏ , ‏وإرغام‏ هؤلاء ‏المكبلين‏ علي تناولها وشربها . ‏
‏حتى هذه المرحلة لم تكن مفاجأة ، لأن المشهد السابق تصادفه كلما تقدمت داخل المدينة ، ولكن المفاجأة كانت في وجود شيخ ‏ أحني الزمن ظهره ،‏ ‏اصفر‏ وجهه ‏من‏ ‏شدة‏ ‏الوهن‏ , ‏ذو‏ ‏شنب‏ ‏كث‏ يغطي جزء من فمه ، يستند في مشيه علي عصا‏، ويرتدي‏ ‏حلة زرقاء‏ ‏قديمة‏ رخيصة الثمن , ‏وعلي رأسه تستقر طاقية زرقاء .
نظرات ‏هذا‏ ‏الشيخ‏ كانت موجه وتراقب ‏قاسم‏ ‏أمين‏ .. ‏نظرات‏ محملة باللوم‏ ‏والعتاب‏ , ‏أحزنت‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ودفعته إلي ‏جذبي‏ ‏من‏ ذراعي‏ , ‏والإسراع بي‏ مبتعدا ‏، دون‏ ‏أن‏ ‏يعطي هذا الشيخ ‏ ‏أدني‏ ‏اهتمام .
سألت قاسم‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ..‏ فتراءت ليفتراابتسم‏ ‏ابتسامة‏ ‏ساخرة ، شعرت‏ ‏فيها‏ ‏بسعادة نصر لا يضارعها غير فتوحات ‏صلاح‏ ‏الدين‏ ‏الأيوبي وقال‏ :-
‏- ‏ألا تعرفينه‏ .. ‏إنه‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏.‏
‏- ‏من ‏أين جاء ومن الذي‏ ‏فعل‏ ‏به‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏؟‏!‏
‏كانت‏ ‏أصوات‏ ‏الضرب‏ ‏وصرخات‏ ‏الأطفال‏ , ‏تزداد‏ ‏وتقوي‏ ‏شيئا‏ ‏فشيئا‏ , ‏وتدنو مني لدرجة أنها ‏شدت‏ ‏انتباهي‏ ، رأيت ‏حجرات‏ ‏كبيرة‏ ‏مشيدة من‏ ‏الزجاج‏ ‏الملون بالأحمر ، بين أركانها يزحف ‏أطفال‏ علي وجوهم ‏يصرخون‏ , ‏بوجوه‏ مستطيلة ‏متجمدة‏ ‏مثلجة‏ , ‏يقف‏ ‏بينهم ‏ ‏رجال‏ ‏حوامل‏ ‏مثل‏ ‏زوج‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة ، يرضعون هؤلاء الأطفال من أثدائهم ‏.‏
في‏ ‏هذه اللحظة ثار في‏ صدري‏ إحساس بالتضخم ‏وتصلبت الحلمات‏ ‏وتدفق‏ ‏اللبن‏ ‏فيهما , ‏وتسرب‏ داخل‏ ‏جسدي‏ ‏رعشة‏ ‏وغيرة‏ ‏شديدة‏ ، وحنين‏ ‏جارف‏ ‏لإرضاع ابنتي‏ التي لم يمر علي ولادتها شهرين‏ , دفعني‏ ‏هذا الشعور‏ ‏بالهروب‏ ‏وترك‏ هذه ‏المدينة‏ قبل الوصول إلي ساحة الاحتفال ، ‏حاولت التملص‏ ‏من‏ ‏يد‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ التي ماتت علي كفي.
‏ساعتها‏ ‏لم‏ ‏أجد‏‏ ‏سبيلا‏ ‏للخلاص‏ , ‏واصلت‏ ‏السعي معهما‏ ‏إلي‏ ‏ساحة‏ ‏الاحتفال‏ ‏، وبعد فترة بلغنا منصة الاحتفال‏ ‏، من مكاني نظرت ناحية ‏الساحة‏ ‏التي تقبع أسفلنا ، وجدتها لا تختلف‏ ‏كثيرا‏ في شكلها ‏عن‏ ‏المكان‏ ‏الذي‏ ‏وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏فيه‏ ‏أول‏ ‏الأمر‏ , ‏صحراء‏ .. ‏ضباب‏ .. ‏أصوات‏‏.‏
في الصف الأول من الحاضرين المكبلين ، ‏كان‏ ‏يجلس‏‏ ‏علي‏ ‏أرضية‏ ‏الساحة‏ , ومنهم‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏ .. ‏العقاد‏ ..‏ ‏مما‏ ‏عرفني‏ ‏بهم‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ .. كان يلفهم ضباب كثيف ، ‏وفي خلفية هؤلاء أناس كثيرون ولكن الجو لم يتح لي رؤيتهم ‏، فالرؤية أمامنا لا تتسع ‏إلا لمعرفة تفاصيل ‏متر‏ ‏واحد‏ , ‏وذلك‏ ‏من شدة‏ ‏العتمة‏.‏
‏وقفت‏ ‏رئيسة‏ ‏المدينة‏ متوجهة ناحية المنصة ، رحبت ‏بوجودي‏ ‏داخل ‏المدينة‏ ، استعرضت الحلم الذي دفع المرأة الجديدة لتشييد هذه المدينة ، بعدها ‏‏انتهت كلمتها وجاءت لتجلس بجواري .
صعد ‏قاسم‏ ‏أمين‏ المنصة ، تناول خطبة ‏ ‏قريبة الشبه بما كتبته في‏ ‏خطبتي‏ , بقيت‏ ‏منجذبة لكلماته ‏حتى‏ ‏وقع‏ ‏ما لا في‏ ‏الحسبان‏ , ‏دوت‏ ‏انفجارات‏ ‏شديدة‏ وصاخبة ‏في‏ ‏نهاية‏ ‏الساحة‏ , نظرت تجاه قاسم أمين ورئيس الجمعية ، فلم أجدهما يعبئان بما يجري فتوهمت بأنه لا يوجد خطر ‏, ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏علو‏ ‏الأصوات‏ , ‏دب بداخلي رعب وشعرت‏ ‏بأن‏ ‏أحداثا‏ ‏مهولة‏ ‏تقع دون ‏أن‏ ‏أراها ‏من‏ ‏شدة‏ ‏العتمة‏.‏
‏ ‏انتهي‏ ‏‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏من‏ ‏قراءة ‏خطبته وجلس‏ ‏بجواري‏ ‏، وجاء‏ ‏دوري في إلقاء‏ ‏ ‏كلمتي‏ , ‏سندت يدي‏ ‏علي‏ ‏المنصة‏ , ‏رتبت‏ ‏أوراقي‏ ‏ورحت أضع خطوطا حمراء أسفل الفقرات ، ‏ ‏بدأت‏ ‏في‏ ‏إلقاء‏ ‏الخطبة‏ , ‏ولم‏ ‏أكد‏ ‏انتهي‏ ‏من‏ ‏الورقة‏ ‏الأولي‏ , ‏حتى‏ ‏لمحت‏ ‏الهلع‏ ‏والخوف‏ ‏علي‏ ‏وجوه‏ ‏الحارسات‏ , ‏اللاتي‏ ‏أخذن‏ ‏يجرين‏ ‏بطريقة عشوائية ‏داخل‏ ‏الساحة‏ , تطاردهم‏‏ ‏أصوات‏ ‏إنفجارات‏ ‏التي أخذت في الزحف‏ ‏ناحية المنصة‏ .. ‏شعرت بأن صوتي بدأ يتلاشى ، توقفت‏ ‏عن الكلام‏ ‏من‏ ‏شدة‏ ‏الخوف.. ‏نظرت‏ ‏ناحية‏ ‏قاسم‏ ‏أمين‏ ‏ورئيسة‏ ‏المدينة‏ ‏فلم‏ ‏أجدهما‏ ‏في‏ ‏مكانهما‏ ، ‏فقد‏ ‏هربا‏ ‏وتركاني‏ ‏وحدي‏ .. ‏‏رأيت‏ ‏المكبلين‏ ‏قد‏ كسروا‏ ‏قيودهم‏ ‏واتجهوا‏ ‏ناحيتي‏ .. ‏وجدت‏ ‏نفسي‏ ‏وحيدة‏ ‏أمام‏ ‏هذا‏ ‏الحشد‏ ‏الهائل‏ ‏من‏ ‏الغاضبين‏.
بدأت‏ ‏أنزوي‏ ‏وأشعر بالاختناق‏ .. ‏ولكن‏ ‏كل‏ ‏الأيادي‏ ‏امتد‏ت ناحية‏ ‏عنقي‏ ..‏ ‏كاد‏ت أنفاسي ‏تتقطع ..‏ ‏تتوقف‏ .. ‏فصرخت‏ ‏بأعلى‏ ‏صوت‏ .. ‏وظللت‏ ‏أصرخ‏ .. ‏وأصرخ‏.. ‏ومن‏ ‏يومها‏ ‏وأنا‏ ‏أصرخ‏.‏
قال‏ ‏لي‏ ‏زوجي‏ ‏بأنني‏ ‏كنت‏ ‏نائمة‏ ، و‏استيقظت‏ ‏وأنا‏ ‏أصرخ‏ ، وهرولت مسرعة ناحية ‏حجرة‏ ‏مكتبي‏ , ‏فوجدت‏ ‏الدوسيه‏ ‏الأحمر‏ ‏موضوعا‏ ‏فوق‏ ‏المكتب‏ ‏فمزقت‏ ‏الأوراق‏ ‏الموجودة‏ ‏به‏.‏
ولكني‏ ‏لا‏ ‏أتذكر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏شيئا‏ .. ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏حكايتي‏ ‏هذه‏ ‏حلما‏ ‏كما‏ ‏يقولون‏ .. ‏أو‏ ‏واقعا‏ ‏كما‏ ‏أعتقد‏.‏.. بعد انتهائي من رواية قصتي .. هل أنا مجنونة كما تتدعي النساء .. أم ست العاملين كما يراني الرجال بعد تمزيق الخطبة .

الأحد، 30 مارس 2008

أطفال الليل



أثناء هرولته داخل حواري وأزقة مدينة الزقازيق ، تعرض " محروس " ابن الثالثة عشر ، للانكفاء علي يديه عدة مرات ، وسط برك من المياه العكرة ، برك خلفتها الأمطار داخل الحفر .. تمزقت جلبابه المتهالكة من عند ركبتيه ، ودفعه تسرب المياه من الثقوب المنتشرة في حذائه الضخم القديم إلي خلعها والجري حافيا.
بعد أن فك " محروس " من الورشة التي يعمل بها ، آثر السير بسرعة عبر الأزقة والحواري الضيقة ، رغم العتمة الحالكة التي تضرب ديارها ، قصدها للوصول إلي محطة العربات التي تقل أهل قريته.. فضلها عن السير في الشوارع الرئيسية ذات الإضاءة الضعيفة الباهتة الخاوية .. فالأزقة بيوتها متلاصقة .. وأصحابها يسعلون باستمرار وحينما يجافيهم النوم تصدر من حجرات النوم همهمات وسخسخات نسوتهم تؤنس الوحشة..
طوال هذا اليوم ودموع " محروس " تنساب وتنهمر بصورة متقطعة .. منذ آذان الفجر .. منذ أن لكزه أبوه بيده الغليظة التي مات جلد كفها وتشقق من أثر عمله في الحقول .. لكزه بشدة بعد أن عثر عليه بصعوبة وسط أكوام اللحم المبعثرة فوق أرضية الدهليز :-
- أصحي يا محروس هنتأخر علي الأوسطي عبد الجبار...
ولكن محروس لم يعره أدني اهتمام ، واستمر يغط في نوم عميق ، وسط رائحة العرق النفاذة التي تتصاعد من البطاطين العسكرية المتهالكة التي يتدثرون بها .. وببطء شديد التفت ناحية أمه ، ولف ذراعيه حول رقبتها النحيفة ودفن وجهه النحيل المصفر في صدرها..
بعد اليأس من إيقاظه بالطرق السلمية .. لكزه أبوه ولكن هذه المرة بقدميه اللتين تتقاربان في الشبه مع خف الجمل .. ثم أنحني والتقطه فتدلي بين يديه مثل شوال القمح ، حتى وصل به إلي مكان " الزير " المستقر في نهاية الدهليز ، أمسك من فوق فوهته المصنوعة من خشب التوت " كوز " قديم مصنوع من الصفيح ، عبأه بكمية من الماء التي جمدها برد الشتاء القارس.. ظل يصبها فوق رأسه حتى أفاق واسترد وعيه ..
خرج محروس معلقا في يد أبوه إلي الطريق الزراعي ، واستمرا في السير علي أقدامهما مسافة تزيد عن كيلو مترين ، حتى لاحت لهما من بعيد " المعدية" التي تقلهما من وسط عزبة المسلمية إلي ضفة النهر المقابلة التي تمر بها العربات.
بعد ساعتين بالتمام والكمال استقر بهما الحال أمام ورشة الأسطي " عبد الجبار " الميكانيكي ، وهو رجل معروف عنه الغلظة في التعامل مع صبيانه ، وهذا الكلام ليس خفيا علي محروس وأبوه .. فالأخ الأكبر كان يعمل لديه قبل ذهابه لتأدية خدمة الجيش ، كان يحكي ويلوك أمام أبوه وأخوته عن الضرب الذي يناله من الأسطي .
تنحي أبوه بالأسطي علي جانب ، ودارت بينهما مشاحنات عديدة وهمهمات مرتفعة حصل في أثرها علي حفنة من الجنيهات ، لم ينس قبل تركه المدينة ، أن أعاد علي محروس النصائح ، وخلف له بعض القروش القليلة التي تكفي بالكاد شراء رغيف عيش وطعمية ، وأجرة العربة التي سوف تقله إلي داره في المساء ..
- والنبي ربنا يخليك لأولادك.. أتركه بدري حتى يلحق عربة .
لأن عبد الجبار غليظ القلب ، لم ينفذ رجاء أبوه ، وأطلق سراحه بعد آذان العشاء ، بعد أن أغلق الورشة..
بعد فترة من التعثر والوقوع داخل برك المياه ، فوجىء محروس بفراغ المحطة المحدوفة في بقعة أرض معزولة خارج المدينة من أي نفر أو عربة .
اجتاحته موجة من الخوف المصحوبة برعدة برد شديدة انتفضت علي أثرها أطرافه وجسده النحيف.. بحث عن مكان يقيه دفقات البرد القارس .. فوجد حائط مبني من البوص المتهالك المجدول في إهمال ، يغطي أجزاء متفرقة منه طبقة من الطين وعيدان القش .. حائط مقهى منصوبة عند مدخل المحطة وسقفه المتهاوي ينز بداخله مياه المطر..
من شدة الخوف تناسى محروس لسعة الهواء التي تخترق رقع جلبابه ، وأصابع قدميه المنمنمة التي تجمدت من رطوبة الأرض ، وأخذت رأسه الصغيرة المحلوقة بالماكينة تجوب في كل الاتجاهات ، تتحرك بشكل سريع ومندفع وكأنها عجلة عربة مثبتة فوق رمان بلي ، وتحول بكاءه إلي نحيب مسموع مصحوبا بدموع حفرت لنفسها مجري داخل طبقة الزيوت والشحم التي غطت أغلبية وجهه.
كان يتلفت في ذعر متمنيا أن تقع عيناه علي أي نفر حدفه القدر ليؤنس طريقه ، ولكن طول الانتظار خيب أمله .. كافة الطرقات علي مرمي بصره ، خاوية صامتة حتى الديار القريبة غط أصحابها في نوم عميق أسفل البطاطين.. ولم يتبق له أنيس إلا الكلاب الضالة المتكورة علي نفسها محتمية بجوار الحوائط.
بعد فترة انتظار طويلة لم تمر فيها عربة أو يسمع لها صوت ، فعربات القرية يسمع صوتها من بعيد لكونها قديمة ، وجوانبها الصفيح متساقطة ، مخصصة لنقل أهل القرية إلي المدينة طوال أيام الأسبوع ، ما عدا صباح يومي السبت والأربعاء ، فتتحول إلي عربات نقل ينزع أصحابها أغطية البلاستك التي تحيط بصندوقها الخلفي والكراسي الحديدية المخصصة لجلوس الركاب .. يزيلونها حتى تتسع لنقل البهائم والحيوانات من القرية والكفور المجاورة إلي الأسواق القريبة..
تذكر محروس نصيحة أبوه بعد أن سمع زمجرت احدي الكلاب الضالة، قبل أن يهم ويتجه إليه ..
- خليك يا محروس واد ناصح وراجل .
- الزاي يا أبويا
- لو أخرك الأسطي بالليل ومفيش عربية .. أمشي لحد مطحن الدقيق الموجود عن بداية الطريق الزراعي وهناك تركب أي شيء .
أنطلق "محروس" من مكمنه قبل أن ينهشه الكلب ، وقصد الطريق الرئيسي المنحدر تجاه المطحن ... علي الناحية الشرقية من هذا الطريق يمر شريط سكك حديدية متجها للقاهرة ، نبتت علي حافته غابات من الحشائش الشيطانية وعيدان من الغاب .. وفي الناحية المقابلة للطريق تقبع ترعة صغيرة ، ذات ماء راكد حولها أهل المنطقة إلي مصرف يلقون به مخلفات منازلهم .. كان الصبي يتحرك مسرعا في خط ملتوي وسط الطريق المغطي بالحفر وبرك المياه ، حتى ينجو من الشرر المتساقط من أسلاك الكهرباء بفضل رزاز الأمطار.
أثناء جريه لم تتوقف رأسه عن الدوران، ولا أذنيه عن إرهاف السمع لهدير الأصوات التي تطارده .. وهي أصوات يصعب عليه تصنيفها بسهولة فهي متداخلة ومختلطة تصدرها أسلاك الكهرباء .. وعيدان الغاب ، أصوات يقطعها من وقت لآخر صمت موحش ونواح كلاب ضالة .
لمح محروس من بعيد نار مشتعلة ، وفي ضوئها الباهت يظهر مبني أبيض ، عرف منها أنه لا بد وقد اقترب من مطحن الغلال ، فهو المبني الوحيد في ذلك الطريق الذي وصفه له والده .. لمح الغفير أمين بجوار النار ، وقتها فقط خفت دقات قلبه المرتفعة ، والتي خيل إليه بأن الدنيا تسمعها..
- يا ابني أنت ماشي لوحدك ليه
- الأسطي عبد الجبار هو اللي أخرني.
- أنت كمان بتشتغل..
- ومين يساعد أبوي وأمي
اقترب محروس بجلبابه المشبع لنصفها الأسفل بطين الشوارع .. اقترب من النار .. ارتعش جسده النحيل .. استمر يثرثر عن الأسطي وأبوه وأخوه الكبير الذي كان يعمل عند الأسطي ودخل الجيش .. والغفير عن بطولاته في القبض علي قطاع الطرق ومقاومة العفاريت .. بين الحين والآخر كان "أمين "الغفير الممدد علي حزم من قش الأرز المفروشة علي الأرض ، يغفوا بجوار النار تاركا محروس بمفرده يتدفأ.. ثم يستيقظ مستكملا نفس الثرثرة وكأنهما لا يزالان يتحاوران.
لحسن الحظ لاحت لهما من بعيد أضواء باهتة لعربة نقل تتجه ناحيتهما ..
- شبرا يا اسطي .. ينوبك ثواب تاخد الواد الغلبان ده .
- أنا رايح لعزبة المسلمية بس .. لأن معاي مريض كان عند الدكتور ..
- مسلمية مسلمية .. بس أوعي ينام منك وتنساه .
في ثواني معدودة كان محروس قد قفز وتكور علي نفسه داخل الصندوق الخلفي للعربة المفروش بقش الأرز .. قش مشبع بماء مطر وروث بهائم ، حاول أن يحتمي به من البرد القارس ، الذي يخترق عظامه في سرعة رصاص بندقية الخفير ..
غط محروس في نوم عميق ، حتى وصلت العربة إلي عزبة المسلمية ، أدرك نفر كان مصاحبا للمريض ، بأن هناك طفل يرقد في خلفية العربة ، ولولا ذلك لظل محروس مستقرا في صندوقها حتى الصباح..
بصوت جهوري أيقظ السائق "محروس" ، وتركه وحيدا وسط ظلام دامس وبرك من الطين ، غطت ساقيه حتى الركبتين.
بيوت العزبة الطينية تحولت أمامه إلي جحور تغوص تحت الأرض ، لا يميزها عن أكوام السباخ الملقاة أمامها إلا خروج شخير أهلها المتشابه في نغمته مع نقيق الضفادع ونهيق الحمير ..
عند بداية الطريق الملتوي المؤدي إلي قريته توقف "محروس" عن المشي ، فمن يجسر أن يتخط موضعه ويفقد حياته ، منذ مولده وهو يسمع من أمه وجدته أساطير العفاريت وحكايات الأطفال الذين يتم اختطافهم من أسرهم .. والذين يقوم باختطافهم أصحاب ماكينات مياه الري الجديدة ، بغرض نحرهم فوق الماكينة حتى تعمل..والعفاريت لم تبرح مخيلته منذ خروجه من المدينة.
وقف محروس بلا حراك والدموع تنهمر .. حتى جاءه الفرج جاء مصحوبا مع صوت أجش يصدره رجل عجوز .. ينهر حماره ليهم بالمشي داخل العزبة .. جري "محروس " بسرعة ناحية الصوت ، ولم يعبأ ببرك الطين التي كان ينزلق فيها .. اقترب من مصدر الصوت وعرف فيه الحاج أمين شيخ البلد ..
- أية يا واد يا محروس اللي م أخرك لحد كدا .
- الأوسطي عبد الجبار .. تركني بعد صلاة العشا .
- هو أخوك الكبير لسة في الجيش .
- ربنا يسهل يا عمي الحاج .. علشان أرجع مدرستي ..
استماتت يد محروس علي الحبل المتدلي من " البردعة " التي يجلس عليها الرجل فوق الحمار ، سرى الأمان في جسده بمجرد أن رأي شيخ البلد ، ومنحه ذلك دفيء أعظم من شعور الطفل الراقد أمامه علي الحمار ، والذي يلفه الحاج أمين بعناية في عباءة من الصوف الثقيل ..
أخذ محروس يحكي والرجل يسمع .. يحكي نفس الحديث الذي حكاه مع خفير المطحن ، وعن مأساته من أجل العودة إلي داره..
وصل محروس إلي داره ، حاولت والدته إطعامه وجبة العشاء ، ولكنه من التعب أنكفأ دون أن يتناولها ، وسط أكوام اللحم المبعثرة علي الأرض ..
وفي صلاة الفجر كان كوز المياه يدلي ما فيه من مياه متجمدة فوق رأس محروس حتى يستيقظ .

حواء ودمار المجتمع



حالة من الجنون.. من فقد الاتزان.. من السعي نحو تدمير الذات والمجتمع ، نعيشها في ظل هجمة شرسة من قبل قلة من " حواء وأعوانها " ، لاقتناص حقيقة الوجود لآدم المنوط به تأديتها لإنجاح الحياة وسيرورتها.. لن يغفو التاريخ عن ذكر هذه السقطة ، التي تناست فيها قلة من حواء دورها الحقيقي سعيا وراء وهم مزاحمة الرجل ، والخاسر الأوحد هو المجتمع الذي اجتاحته ظواهرغريبة.
زين لها هذا الوهم حفنة من الأعوان لديهم قناعة بأن القانون الذي يحكم الحياة الآن ، هو لفظ الأفكار ووضعها موضع الأقدام ، وإنكار الرأي الصحيح والجبن عن إعلانه في سبيل الركض وراء المنصب والألقاب الزائفة.
ظهر هذا جليا في العديد من قصص " مدينة الحريم " ، التي نشرت عدد منها في الصحف وبعض المواقع الأدبية علي شبكة الإنترنت ، وتحول بعضها إلي " سهرات " إذاعية ، وقتها هاجمتني حفنة من مدعيات الأدب بالتهجم علي شخصي ، اعتقادا منهم خاطيء بأن ذلك يمكن أن يتستر علي الحقائق ، التي برهنت بأن قلة من حواء الآن خرجن عن القانون الذي خلقن له ، وأصبحن يتحزبن في اتجاهين لكل منهما رموزه ، الاتجاه الأول أضحت الفنانات والراقصات رمزا له ، والاتجاه الثاني اتخذن من مرتديات النظارات السميكة حبيسات المكاتب والجمعيات نبراسا.. والخاسر في النهاية المجتمع ..