الخميس، 19 يونيو 2008

حب للأبد





الحب إحساس ينمو ..
يلهو .. يتنفس ..
يعيش لآخر العمر ..

حب للأبد

يوم الخميس الماضي انهارت أعصاب الأستاذ " محب " ، مما دفعه للوقوع في المحظور.. الشائعات تطايرت في كل مكان بأن الجان مسه ، وبدأ يهذي بأصوات مرتفعة كلما خلى بنفسه في حجرة النوم عقب صلاة عشاء ، حجرة كئيبة على القلب ، تثير في نفوس كل من يراها الكآبة والسأم ، دهان حوائطها الرمادي بهت وتهاوت أجزاء منه ، وشباكها الوحيد مكسو بستارة من الستان الأسود وسجادها عتيق ينفث رائحة عتة.
كلما دخل الحجرة كان يصر على إغلاق بابها من الداخل ، ينحشر بجسده الضخم داخل مقعده الهزاز ، يلقي برأسه إلى الوراء .. يتحدث بصوت مرتفع متهدج ، صوت مرتعش يوحي لكل من تضطره الظروف ويقصد الممر المؤدي لدورة المياه ، بأن الأستاذ يتوسل لشخص من لحم ودم يقطن معه الحجرة الخاوية.. بعض المتلصصين من أهل البيت كانوا ينتهزون خروجه ويتسللون داخلها , يقلبون في كافة أرجائها رأسا على عقب بحثا عن هذا الشخص ..
كان معروفا بين الناس أن الأستاذ لديه خلق رفيع وعقل راجح ، كريم في بيته ومكتبه مفتوح لكل من هب ودب ، لحل المشكلات ونفح ما به من نصيب ، ولكن ما جرى له بعد ذلك أوحي للناس بأن عقله ولى وراح بلا رجعة.. ولأني صديق عمره منذ أربعين أو بالأحرى تسعة وثلاثين عاما وأقرب الأشخاص إليه ، فأنا أدري نفر بكل ما حدث له.
ولكى أكون صادقا معكم ، اجتهدت في صده عن إتمام ما كان ينوي تنفيذه ، ولكن لم أداوم لأنه عنيد .. وحتى لا نتوه ونتخبط في القيل والقال ، فما كان ينويه الأستاذ نفذه يوم الخميس الماضي ..
في صباح ذلك اليوم وكالعادة أفاق مبكرا ، نزل درجات السلم على مهل مستندا على عصاه ، مسح بنظره أركان الحديقة التي ذبلت أشجارها قبل أن يلتهم إفطاره ، بعد فترة شد جسده المنهك ، تغلب على الألم المنتشر في ساقه اليمني ، وبصعوبة وصل إلى حجرة النوم ، سكب في فمه كمية من أدوية الضغط والسكر والقلب الذي يعاني منه.
بعد ساعة خرج مرتديا حلة سوداء ، يزينها قميص أبيض وكرافتة يعكر بياضها نقاط سوداء مبعثرة ، حلة مستوردة ابتاعتها له زوجته منذ أربعة شهور.
قرر أن يمر على الحلواني ، الذي تتعامل معه زوجته من زمن غابر ، كان المكان يغص بالزبائن ، ابتاع منه تورته مكسوة من الخارج بطبقة من الشيكولات والمكسرات وراح للبيت ..
في غبشة هذا اليوم وبعد أن خفتت حدة الشمس الحارقة ، أمر السائق بأن يقله إلى نفس المكان الذي يتردد عليه بصورة أسبوعية لمقابلة زوجته ، مكان عشوائي غير منسق، بيوته بسيطة فقيرة مبعثرة ، فرض على الزوجة أن تقطن به مع والديها..
- ارجع وانتظرني في العربة
وجه الأستاذ كلماته إلى السائق ، بعد أن ترك من يده باقة الورود والتورتة التي كان يحملهما على مكان يشبه المصطبة.
حتى هذه المرحلة لا توحي تصرفات الأستاذ بأنه فقد عقله ، ولكن ما جاء بعد ذلك هو الأهم ، جوهر ما كان يصر على تنفيذه ، هو إقامة عيد ميلاد زوجته وسط هذا المكان الموحش .. أصر لأن العام الفائت لم يستطع الاحتفال معها ، كان يعاني من أزمة مرضية دخل على أثرها المستشفي ، وجاء اليوم ليعوضها بعد أن تخطت عامها السابع والستين..
كاد النهار يتلاشى ، لفحت تجاعيد وجهه نسمة رطبة .. شاردة .. غريبة عن جو شهر أغسطس القائظ .. أعقبتها دفقات أخري كادت تطفيء الشمعة التي نبتت من داخل التورتة..
ما فعله " محب " لم يكن مفاجأة لزوجته ، كانت فرحتها عارمة ، وضحت في رعشة شفتيها ، وفي لمعة عينيها .. اقتربت منه .. شعر بقبلة شوق تطبع على خده الأيسر .. انتشي .. أحس فرحة .. كان يتمني أن يشعر بها في بيتهما بعيدا عن هذا المكان ، الذي ينفث كآبة وصمت وأنفاس متجمدة عميقة ، مكان كله طنين ذباب أخضر لزج ، و كلاب ضالة، وشخشخة أوراق سنط يتدلى من أفرعه صمغ كثيف بني داكن.
في شوق نظر " محب " ناحية زوجته ، بين ثنايا وجهه تدحرجت دموعه دون سيطرة ..
- كل سنة وأنت طيبة يا حبيبتي
انتزعت تنهيدة عميقة من بين ضلوعها ، ألحقتها بابتسامة تحمل شوقا عارما ، أشاعت بين الأهل الذين التفوا حولهما موجة من البهجة .
مدد" محب " ساقيه فوق قطعة من القماش افترشت الأرض، أرخى على يمينه باقة الورد التي نسجها من المحل الملاصق لناصية الشارع الذي يعمل به ، وبثغر باسم سألها:-
- فاكرة أول يوم لمحتك به .
ولكن صمتها المتكلم وابتسامتها المنحوتة في قسمات الوجه الناعم ، كانت كفيلة بالرد عليه ..
- حينما هللت من قريتي للعمل في الجريدة ، سكنت أمام شباك حجرتك .. شغفت بك من أول نظرة ، رغم تهدل خصلات شعرك على وجنتيك بطريقة غير مرتبة، وتناثر رغوة الصابون على ملابسك ، وتساقط مياه الغسيل من أطراف أكمام جلبابك .. حينها رفعت عينيك بعد الانتهاء من تمديد الملابس على حبل الغسيل ،فوجئت .. حاولت باستماتة إخفاء نفسك.
استفاق الأستاذ وقطع حديثه في ضيق ، بسبب ذبابة لزجة خضراء ، حامت مرات حول وجهه .. طاردها بيديه .. وبعد فترة تعاطفت معه وطارت مبتعدة عنه ..
- أنت فاكرة اليوم التالي .. تسمرت في الشباك بعد عودتي من العمل ، رغم المرض والرعشة الشديدة وقطرات العرق التي كانت تتهادى على جبيني .. وقتها فررت بمجرد أن لمحتيني..
فجأة قطع الأستاذ كلماته ، بعد أن مرق بجواره كلب ضال يتدلى من فمه رغوة ولسان بفضل قيظ الجو ، وقف شاخصا في استغراب وتعجب يحدق في وجوه الحاضرين.. ثم جمع كل قوته وأطلقها في موجة نباح .. نباح متقطع أزعج الزوجين ، وأزاح النشوة التي كانت تعتري الضيوف ، فهم يجلسون ساهمين منذ قدوم الأستاذ ، لم يحاول أحدهم أن يقطع الخلوة بين الزوجين ..
- أتذكر ذلك اليوم .. حينما داهمتني الأزمة القلبية.. بعد أسبوع بالكمال والتمام ..فوجئت بك تتطلعين إلي بنظرات تملؤها اللهفة والقلق ، وأندفعتي بدون شعور :-
- حمد الله على سلامتك يا أستاذ
في لهفة وبدون شعور رددت الكلام عددا من المرات ، كان الخوف والرعب واضحا على ملامحك .
- بحبك .. بحبك
بمجرد سماعك الكلمة هرعتي بعيدا .. كأنك لم تصدق بأن هناك من يحبك .. في اليوم التالي طلبت منك مقابلة والدك ..حاولت الهرب بسبب رفض والدك،لأن قصة مرضي بالقلب انتشرت في الشارع الذي نقطن فيه..
ولكن حبي الذي تفجر أزاح أمامه كل الأوهام .. الخوف .. رفض والدك.. تزوجنا وعشنا أجمل أيام عمرنا .
جاءت دفعة هواء أخري رطبة ، لم يعرف مصدرها .. أطفأت الشمعة ..
- تتذكرين أول عيد ميلاد لك .. وقتها كانت عيناك تلمعان بالفرحة .. نفس الإحساس أشعر به الآن .. يديك المرتعشتان .. ضمتك التي تخرجين فيها حرمان السنين .. ابتسامتك التي لم تفارق شفتيك المنحوتتين ووجهك البشوش ..
بصعوبة أخرج " محب " عود الثقاب من سترته ، حاول إشعال الشمعة وهو يتنهد وينظر للأفق البعيد ، ودموع الفرحة لا تفارق عيناه ، وفي رعشة شفتاه قال لها ..
- لم تستوعب الأرض حجم هذه الفرحة .. حلقنا معا.. خططت حياتي التي كانت بلا طعم ..كنت تجلسين بجواري على السرير تقرأين لي .. دفعتيني للنجاح حتى أصبحنا مضربا للمثل ..
في هذا اليوم كان الذباب كثيفا ولزجا ، أخذ يطن .. يلتصق .. يضع الأتربة ومخلفاته فوق التورته .. ولكن الزوج لم يكن يعيره أي اهتمام ، لأنه كان مأخوذا بزوجته وذكرياتهما معا..
- كنت تنتظرين كل يوم على باب الشقة ، بعد أن تلمحيني من النافذة وأنا قادم ..
- يا بيه لا تنظر وأنت طالع ناحية شقة الست المايعة .
- كنت أضحك من كثرة غيرتك ، رغم زيادتها في أحيان كثيرة ..
- هي واقفة لك في الرايحة والجاية ليه.. أنت بينكما حاجة .. قول .. أعترف .. أنا بأشوفها وهي بتضحك ليك ..
- يا حبيبتي بلاش أوهام هو في حد غيرك ممكن قلبي يراه .. أنت الوحيدة التي ملكتيني ..
- كان حبنا مضرب المثل بين الأهل والأصدقاء ، هل تتذكرين عندما
جاء محمد صديقنا في الساعة الثالثة صباحا ، غضبان جدا ومنفعل وبدون أحم ولا دستور أنفجر فينا ...
- ممكن تبقوا تخلوا حبكما بينكما دون أن تشعر به زوجتي ..
- ليه خير الله ما أجعله خير ..
- أتخنقنا الليلة بسببكما وتركت لي المنزل والأولاد .. عاوزاني أحبها نصف ما بتحبوا بعض ... هأ هأ
- أنت عارفة .. أنا اليوم متأكد بأن الناس تتهامس وتتغامز على وتقول مجنون .. ولكن رغم ذلك حزمت أمري بأن آتي لأحتفل بعيد ميلادك.
- أنا أتذكر السنة الماضية حينما أتيت بالتورتة إلى المستشفي ، حيث كنت أرقد من مرضي المزمن .. رغم إجهادي ولكن فرحتي بك كانت أضخم .
- كل سنة وأنت طيبة يا أرق حبيبة .. هل تتذكرين آخر عيد ميلاد لك .. كنت زعلان جدا منك .. بسبب عدم اعترافك بخطئك ..
- يومها كنت في عملي وقرأت حوارك في إحدى المجلات عن حياتنا ... يومها لم تذكر دورك في نجاحي .. ليه ..
- لا تجادلي .. أنت أخطأت .. دورك في حياتي كل الناس تعرفه ..
المهم .. كل سنة وأنت طيبة .. أنت جميلة كما رأيتك أول مرة .. لم يختلف قوامك الممشوق .. أو وجهك وروحك الجميلتان ..
فجأة إنهمرت دموع الزوج .. سامحيني لا أستطيع أن أقبلك كالعادة .. أو أمسك نفسي عن البكاء في يوم عيد ميلادك .
بكي بحرقة حتى غامت عيناه .. بكي لدرجة أنه فقد الشعور بنفسه إلا بعد أن شعر بيد تمتد إلى كتفه ..
- الجو ليل يا أستاذ
استند الاستاذ على يد سائقه ، ترك زوجته بمفردها وسط ابتسامة حزينه .. إبتسامة وداع من داخل قبرها ..
في تلك الليلة لم يتحدث إلى أحد ، جاءته في الحلم .. تقابلا.. تجمعت روحهما كما كانت في الحياة ..

0 التعليقات: