الخميس، 19 يونيو 2008

حضرة العمدة


وسط الضباب ..
تسكر العقول ..
وتغيب الأدوار ..


حضرة العمدة

‏في ليلة صيفية لم تنخلع تفاصيلها من أدمغة أهل القرية حتى الآن ، بعد تأديتنا لصلاة العشاء ، هلت إلى آذاننا صرخات وعويل ، إجتهدنا في البداية للتعرف على مصدر انطلاقها فلم نفلح ، لأن منابعها متفرقة .. مترامية .. مبعثرة بين حواري وأزقة القرية ، لم ينتظر الأطفال حتى يرتدوا الأحذية ، حملوها بين أيديهم عند باب المسجد وانطلقوا.
وما كانت إلا دقائق وقد ارتد بعضهم وأخبرونا بالمصيبة التي حاقت بقريتنا .. عرفنا بأن هناك مشكلة عويصة لا أول لها ولا آخر .. فاقت في وقعها عدد الجرحى الذين التهمهم انفجار "وابور" الجاز‏ داخل المضيفة ..
إحقاقا للحق وقبل أن تقع هذه المصيبة.. لم تكن تسمع‏ لأهل قريتنا ‏صوت‏ ‏ولا زعيق‏ ‏.. فكل الدلائل تبرهن أنهم‏ ناس‏ ‏طيبون مسالمون .. أغلبية رجالها هجروها من زمن بعيد ‏، لأنهم أناس كسيبة وهمهم الأكبر تكنيز المال والذهب في أيد زوجاتهم .. فشدوا الرحال إلى‏ ‏دول‏ ‏النفط .. وأما الفئة التي لم تهاجر فقلوبهم ضعيفة لا تقوي على تحمل الغربة ، تجدهم قانعين خانعين ، بالنهار مربوطين بالغيط يساعدون النساء والأطفال والعواجيز في زراعة الأرض وتربية البهائم ، وبالليل يهربون من ألسنة نسائهم الحادة إلى الغرزة الوحيدة المنصوبة بالقرب من المقابر .. وفي العادة تنفض حواريها من أي نفر بعد صلاة العشاء.. ‏لذا‏ ‏لم نر يوما شجار إلا بين النسوة ، وهي شجارات لا تصل لحد المشكلة المستعصية التي وقعت تلك الليلة.‏
حينما جاء إلينا الأطفال بالخبر اليقين عند الجامع ، علمنا بأن المشكلة العويصة تمخضت بسبب ما جرى لحضرة العمدة الذي تولي منصبه منذ أسبوع فقط .. وقتها من استطاع الجري قفز وأسرع ومن تحمله قدماه بالكاد من الشيوخ والعواجيز فضل ركوب الحمار ، فالكل يعترف بأن كرامة حضرة العمدة من كرامة أهل القرية ، ونحن لن نسمح بأن يتحول شرفنا إلى لبانة تمضغها ألسنة أهل القرى المجاورة في مجالسهم ..
ورغم ما أصاب أهل قريتنا من انشقاق على ما جري لحضرة العمدة ، إلا أن المصيبة في النهاية وحدتهم .. ففريق الشيوخ والعواجيز ، تشعرك نبراتهم‏ ‏ ‏بصدي‏ من الشماتة وهم يمصمصون شفاههم بالحسرة على أيام زمان وعمد زمان:-
‏- تستاهل ..
أما الفريق الثاني فكانوا نسوة القرية .. ارتسمت ‏‏على‏ ‏وجوههن إمارات الشفقة‏ وهن يقلن:-‏
‏- ‏والله‏ بألف‏ ‏راجل
وحتى تتمكنوا من تكوين فكرة حقيقية وتتخيلوا‏ صعوبة ‏ما‏ ‏ألم بقريتنا‏ من فاجعة ‏، نبدأ بمشهد أهل القرية الشامتين ، حينما‏ وصلوا إلى جسر الترعة المارة في نطاق القرية عند الجهة الشرقية ، ‏ارتصوا في حلقات ودوائر‏ ، فوق أكوام من الحصى والتراب استخرجته الكراكة حديثا أثناء تطهيرها للترعة ، تجمعوا ‏حول‏ ‏جثة‏ غريق غريب ‏أوقفتها شبكة الصيد التي يمتلكها المعلم حسين وينصبها عند فوهة الكوبري ، هؤلاء الشامتون انتظروا قدوم حضرة العمدة وسط‏ ‏الأضواء‏ المنبعثة ‏من الكشافات‏ الكهربائية ‏المستوردة‏ ‏ليحل لهم تلك المصيبة.
أما‏ الفريق ‏المشفق‏ من أهل القرية على حضرة العمدة ، ‏لم‏ يجسروا على الاقتراب من الطريق المؤدي إلى الترعة ‏.. فالترعة يعزلها عن ‏القرية أفدنة مزروعة بعيدان الذرة ، ‏لذا فكل ما فعلوا هو أن تجمعوا‏ ‏أمام‏ ‏العتبات‏ ‏ ، ‏يسألوا‏ ‏العائدين‏ ‏عن‏ ‏القتيل‏ .. ‏ويتضرعون إلى الله بأن يكلل ‏ ‏أول‏ ‏اختبار‏ ‏ لحضرة‏ ‏العمدة بالنجاح‏ ، ‏خاصة‏ ‏أن‏ ‏تعيينه‏ ‏جاء‏ ‏رغما عن ‏أنف‏ ‏أغلبية‏ ‏القرية .
‏وحتى لا تتوهموا بأن المصيبة التي حيرت أهل قريتنا هي ‏الجثة‏ ‏الغريبة ، ‏فإن ‏حقيقة‏ ‏المشكلة ليست كذلك‏.‏
عندما‏ ‏شاع‏ خبر‏ الجثة الغريبة‏ ‏بعد‏ ‏صلاة‏ ‏العشاء‏ ‏ ، ‏تسابق‏ الخفراء ‏إلى الدوار ، لإخبار العمدة بالمصيبة ، وعندما سمع بالخبر لعن أجداد القتيل ومن حدفه في زمام القرية ،‏ فالخبر جاء في وقت غير مناسب ، كان‏ ‏العمدة مشغول‏ لدرجة تلهيه عن تلك‏ ‏المصيبة‏ التي حدفها القدر .. ‏
لا يذهب‏ ‏تفكيركم‏ ‏إلى‏ ‏بعيد‏ ، ‏وتحسبون‏ ‏من‏ ‏كلامي‏ ‏بأن عمدتنا‏ ‏كان‏ ‏مشغولا‏ ‏في‏ جلسة ‏للصلح‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏تأدية‏ ‏واجب‏ ‏العزاء‏ ، ‏أو‏ ‏في‏ ‏حضور‏ ‏فرح‏ أو طهور طفل .‏
فكل‏ ‏ما هنالك أنه كان ‏يعد‏ وجبة ‏العشاء‏ ‏لأولاد‏ه ..لا تتعجبوا‏ .. ‏نعم‏ كان يطهوا‏ ليتناول ‏وجبة العشاء‏ وسط أسرته ، ‏لأن‏ ‏الذي لا تدركونه‏ ‏ولا ‏يمكن أن يخطر‏ ‏على‏ ‏بالكم‏ هو أن ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ " ‏واحده‏ ‏ست " .
عندما‏ ‏جاءها‏ ‏الخفير‏ ‏بالخبر‏ ، استولت ‏عليها‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏القلق‏ ‏والتشاؤم .. ‏القلق‏ ‏بالطبع معروف مصدره ، وهو ‏أنها‏ ‏سوف‏ ‏تضطر لترك‏ ‏أولادها‏ ‏بدون‏ ‏عشاء‏ .
أما‏ تشاؤم حضرة العمدة فمنبعه‏ ‏القدر الذي ألقي بجريمة القتل في أول أسبوع من توليها العمدية..
أوفدت‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏الخفير‏ ‏الذي‏ ‏أتاها‏ ‏بالمصيبة‏ ، لينادي لها ‏شيخ‏ ‏الخفر‏‏ ، ‏في حين همت بارتداء‏ ‏جلبابها‏ ‏الأسود‏ ‏الكاسي‏ ، ‏ولفت رأسها وجهها بطرحة من ‏الحرير‏ ‏ ‏ ‏جاءتها‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ .
أما ‏زوج حضرة العمدة ‏وقتها كان‏ ‏يفترش السجادة الممددة‏ ‏في‏ أرضية ‏المندرة‏ ‏بطوله الفارع ، مرتديا سروالا‏ من البفتة ، وصديري جديد بوجه‏ لميع‏‏ ‏فوق‏ فانلة ‏بيضاء‏ ‏ناصعة‏ ‏..بمجرد أن تناهي إليه الخبر ‏تغيرت‏ ‏ملامحه وتبدل‏ ‏مزاجه‏ ‏وعمته‏ ‏موجة‏ ‏من‏ ‏العكننة‏ ‏والغيظ‏ .. ‏فالمصيبة‏ ‏أوقعته‏ ‏هو أيضا في‏ ‏حيرة‏ ‏شديدة‏ ، ‏الواجب‏ ‏‏‏يحتم‏ ‏عليه‏ ترك‏ ‏الأولاد‏ ‏بمفردهم‏ ، ‏بعد أن ‏كادوا‏ يهمون‏ ‏بتناول عشاءهم‏ ‏استعدادا للنوم‏ ، حتى يلحقوا ‏بمدارسهم‏ ‏في‏ ‏الصباح الباكر.
ولكن‏ ‏لأن‏ ‏الساعة‏ ‏تأخرت‏ فمن عادة أهل قريتنا ‏النحررة والخوف على نسائنا حتى ولو كانت عمدة القرية ، فضل زوجها ألا ‏يتركها‏ ‏تروح‏ ‏بمفردها‏ ‏وسط‏ ‏الرجال‏.‏
لم‏ ‏تمرق غير‏ ‏دقائق‏ ‏معدودة‏ ، وكان‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏يقف‏ مزروعا‏ ‏ ‏داخل‏ ‏حوش‏ ‏الدوار‏ ، ‏بجوار‏ ‏مربط‏ ‏البهائم بالضبط .. تتملكه حالة من الحيرة والخوف .. ‏ ‏يتنحنح‏ ‏بصوت عالي ، ويخبط‏ ‏كفا‏ ‏على‏ ‏كف‏ ‏وينادي‏:-
- ‏يا جماعة‏ .. ‏يا حضرة‏ ‏العمدة‏ .. ‏يا‏ ..‏
فجأة توقف عن الكلام .. وأصابته حالة من التلعثم‏ .. ‏احتار‏ ‏بأي‏ ‏اسم‏ ‏ينادي‏ ‏على حضرة العمدة ..
لم‏ ‏يكن‏ ‏شيخ الغفر الوحيد‏ من أهل القرية ‏الذي‏ ‏سقط في دوامة تلك ‏الحيرة‏ ، ‏فكل‏ ‏من‏ ‏حدفه قدره خلال الأسبوع الماضي ‏ ‏بمشكلة‏ أو مشورة ، تستوجب الحضور إلى دوار‏‏ ‏‏العمدة‏ ‏، تجده‏ ‏واقفا في حيرة‏ ‏عند‏ ‏حافة الطريق‏ ‏الزراعي‏ ‏الذي‏ ‏يمر‏ ‏أمام‏ ‏الدوار‏، ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏لديه ‏عشم‏ ‏مثل‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ، يدفعه عشمه ‏ويدفع‏ ‏بوابة‏ الحوش المصنوعة من ‏الصاج‏ ‏ ‏ ، ‏حتى يصل ‏بجوار‏ ‏مربط‏ ‏البهائم‏ ‏ويقف‏ ‏يضرب‏ ‏أخماسا‏ ‏في‏ ‏أسداس‏ ، ‏محتار‏ ‏بأي‏ ‏اسم‏ ‏ينادي .. وحتى لا‏ ‏تتعقد‏ ‏المسألة‏ ‏فقد‏ أبرم أهل القرية فيما بينهم‏ اتفاق ‏غير‏ ‏مكتوب‏ ‏أو‏ ‏معلن‏ بأن‏ ‏ينادون‏ ‏عليها‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏.‏
أخيرا‏‏ انطلقت ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏بجسدها‏ ‏النحيف‏ ‏وقامتها‏ ‏القصيرة‏ ‏وساقيها‏ ‏اللتين‏ ‏لا تختلفان‏ ‏في حجميهما عن‏ ‏ساقي‏ ‏الفراخ‏ ‏.. خرجت وهي تكفن وجهها‏ ‏ذي‏ ‏المعالم‏ ‏الصغيرة‏ ‏بالطرحة ، ‏وبجوارها‏ مشى‏ ‏زوجها‏ ‏بجلبابه‏ ‏الكشمير‏ ‏وشاله‏ الأبيض ‏المستورد‏ ، ‏مشي وهو يشد‏ ‏عوده‏ ‏الرفيع‏ ، ويحبس نفسه فترة حتى ينفخ‏ ‏صدره‏ بارز ‏العظام‏‏ ‏..
بجوارهما‏ مباشرة ‏‏سار‏ ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏بقامته‏ الفارعة ‏ ‏وشاربه‏ الطويل ‏الذي‏ ‏يلفه بعجينة من القمح ، حتى يقف‏ ‏عليه‏ ‏كل‏ ‏طير‏ ‏القرية‏ ‏ولا يسقط‏ ‏، كانت مشيته تحمل رائحة الخيلاء والزهو ، وهو يحرك في إهمال بندقيته‏ ‏التي‏ ‏يحملها‏ ‏فوق‏ ‏كتفه‏ ‏الأيمن‏‏ ، ‏وقد‏ ‏تآكلت‏ ‏أجزاء‏ من‏ ‏جسدها‏ ‏الخشبي‏ ، ‏ومن‏ ‏خلفهم‏ ‏مشي‏ بعض ‏الغفر‏ ببطيء وإرهاق والنوم ‏يداعب‏ ‏جفونهم‏.‏
‏تخلف عن هذا الموكب‏ ‏شيخ‏ ‏البلد‏ ، ‏رفض أن يحضر رغم أن حضرة العمدة أرسلت في أثره ، موقفه ليس وليد هذه اللحظة ، فبعد توليها العمدية‏‏ ‏حلف‏ ‏برأس‏ ‏أبيه‏ ‏ليترك‏ ‏المشيخة‏ ، فهو لا يمكن أن يستمد قراره من‏ ‏واحده‏ ‏ست‏ ‏ولو كانت ‏حضرة‏ ‏العمدة‏.‏
عندما مر‏ ‏موكب‏ ‏العمدة‏ ‏مخترقا ‏الجرن‏ ‏الواسع ، الموجود‏ ‏عند‏ ‏بداية‏ ‏الطريق‏ ‏الزراعي‏ ، الذي يقيمون به أفراحهم وحلقات الذكر‏ ، كانت‏ ‏النسوة ‏المتجمعات‏ ‏أمام‏ ‏عتاب‏ ‏دورهن‏ ، ‏ينظرن‏ ‏لحضرة‏ ‏العمدة‏ ‏بعين‏ ‏من الفخر‏ والانتصار ، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏تلك‏ ‏النظرات‏ مبهمة و‏غير‏ ‏مفهومة‏ لرجالات القرية‏ .. ‏فمن‏ ‏يوم‏ ‏تعيين‏ ‏العمدة‏ ‏والرجال‏ ‏يجمعون‏ ‏على‏ ‏أن‏ ‏نسائهم ‏‏أصبحن‏ ‏يندب‏ ‏في‏ ‏عيونهن ‏الرصاص‏ ، ‏فلم‏ ‏يعدوا‏ ‏يذهبو‏ ‏إلى‏ ‏الغيطان‏ ‏كالمعتاد‏ ، ‏بل‏ أن ‏الست‏ ‏التي‏ ‏لم‏ ‏يسافر‏ ‏زوجها‏ ‏إلى‏ ‏الخارج‏ ، ‏أصبحت‏ ‏تتجرأ‏ ‏وتعايره‏ ‏وتقلل‏ ‏من‏ ‏شأنه‏ ‏ومن‏ ‏كرامته‏ ‏أمام‏ ‏أهل‏ ‏القرية‏ ، ولكن للإنصاف فإن الحسنة‏ ‏الوحيدة‏ ‏التي‏ ‏يراها‏ ‏الرجال‏ ‏الآن‏ ‏في‏ ‏نسائهن‏ ، ‏أنهن‏ ‏أصبحن‏ ‏يمثلن شفعة لا تخيب لدي‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏عند الوقوع في‏ ‏أي مشكلة.‏
بعد أن عبر الموكب الجرن ، أخذت أنوار الشوارع‏ في البهتان ‏‏، ‏فأعمدة الإنارة تنتهي عند مدخل القرية ، والمصابيح‏ ‏دائما ما تتعرض‏ ‏للسرقة‏ ،وعيدان‏ ‏الذرة‏ ‏في الغيطان‏ ‏نمت‏ ‏لدرجة أنها أصبحت قادرة على حجب‏ ‏بقايا‏ ‏الضوء‏ ‏الباهت‏ ‏الآتية‏ ‏من‏ ناحية مئذنة ‏الجامع.
هذه الظلمة دفعت ذاكرة ‏"حضرة ‏العمدة‏ " على تخيل شكل القتيل ، خاصة أنها المرة الأولى التي ترى فيها جثة ، وللإنصاف هي المرة الوحيدة التي ‏يسوق فيها القدر غريقا ناحية القرية .
- هل يمكن أن تكون ممزقة بسكين.
- يمكن تكون مشوهة .
أوضاع عديدة تخيلت فيها الجثة ، وكلما مر بخاطرها سبب أستولي عليها القلق والرعب من مجابهة تلك المصيبة ..‏مع كل خطوة كانت ‏درجة‏ ‏حرارة‏ ‏جسدها ترتفع‏ ‏، فتزداد التصاقا ‏بزوجها‏ ، الذي كان يشعر بخوفها فيهدهد على كف يدها التي ‏استماتت‏ على ذراعه .. ‏أثناء ذلك كان‏ هدير أهل ‏القرية‏ ‏يجيء مختلطا ‏بصفارات أحد ‏الخفراء ‏ ‏القابع‏ ‏بجوار‏ ‏الجثة‏ ، ‏وصوت‏ ‏ميكروفونات‏ المسجد ‏الذي‏ ‏ينبه‏ ‏عن‏ ‏وجود‏ ‏القتيل‏.‏
وصل موكب‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏أخيرا‏‏ ‏إلى‏ ‏المكان‏ المحدد‏ ، ‏وبمجرد‏ ‏أن‏ ‏لمحها‏ ‏الخفراء ‏ ‏قاموا‏ ‏بتفريق‏ ‏الناس‏ ‏الموجودين‏ ‏بجوار‏ ‏الجثة‏ ‏المغطاة‏ ‏بكوم‏ ‏من‏ ‏القش‏ ، حتى يمنحوا ‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ فرصة التقاط أنفاسها ، والتفكير العميق ‏في إيجاد مخرج لتلك الكارثة التي يمكن أن تجلب للقرية برمتها مصيبة السؤال والجواب في المركز ، وما أدراكم بمخبري المركز‏.‏
تعلقت‏‏ ‏كل‏ ‏العيون‏ بها فهي المسئولة الآن عن‏ الربط‏ ‏والحل‏ ‏في‏ ‏تلك‏ ‏المصيبة‏ ‏الصعبة، ‏وحبست‏ ‏الأنفاس‏ ‏ودب صمت مميت ‏.‏
‏- ‏غريب‏ ‏يا حضرة‏ ‏العمدة
قالها‏ ‏أحد‏ ‏الخفراء ‏ ‏الذين‏ ‏كانوا‏ ‏يحرسون‏ ‏الجثة‏ .
‏- ‏جاي‏ ‏مقتول‏ ‏جاهز‏ ‏يافندم‏ .. ‏
شعر ‏شيخ‏ ‏الغفر‏ ‏بأن الفرصة أصبحت سانحة له‏ ، ‏لكي يبين‏ ‏مدي‏ ‏نباهته ‏أمام حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏وبأنه‏ ‏كبير‏ اللمة ، ‏ويجب‏ ‏أن‏ ‏تعتمد‏ ‏عليه‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏صغيرة‏ ‏وكبيرة بعد ذلك ‏.‏
‏- ‏صحيح‏ يا حضرة العمدة .. ‏ ممكن نشيله‏ ‏ونرميه‏ ‏في‏ ‏الترعة ‏ .. ‏وكدا كدا تيار الميه يحدفه بعيد عن القرية‏ .. ‏ونريح‏ ‏رأسنا‏.‏
لم تتعجل حضرة العمدة في ردها ، فهي تدرك بأن نهاية هيبتها أمام أهل القرية ، يبدأ مع تنفيذ فكرة شيخ الغفر ، الذي تعلم بأنه خبيث ولا ينصح لوجه الله ..
اشتدت‏ ‏الأنوار‏ في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏حول‏ ‏الجثة‏ ‏وسط صمت‏ ‏القبور‏ ‏الذي‏ ‏حل‏ على المكان.. ‏الكل‏ ‏يترقب‏ ‏وينتظر في لهفة الحل‏ ، والحل طال وأمتد .. وحضرة‏ ‏العمدة تروح‏ وتجئ ‏في‏ ‏المكان‏ ‏وهي‏ ‏تفرك‏‏ ‏يديها‏ ، ‏عيناها معلقتان بنظرات‏ ‏زوجها‏ ‏الواقف‏ ‏، تقف ويطول نظرها إليه وكأنها‏ ‏تستحثه‏ ‏على‏ إبداء ‏رأيه‏ ‏، وفجأة لمعت عيناها بالحل ، وفي‏ ‏استعلاء‏ ‏نظرت‏ إلى ‏الجثة‏ المغطاة ‏، وما كادت‏ ‏لسانها المعقود يستجمع قواه وينطق‏ ‏بالحل‏ ‏إلا‏ ‏وسبقه ‏غباء‏ ‏الخفير‏ ، ‏فقد‏ ‏عاجلها‏ ‏برفع‏ ‏القش‏ ‏من فوق‏ ‏الجثة ..
- ‏انظري‏ ‏يا حضرة‏ ‏العمدة
وما‏ ‏أن‏ ‏وقعت‏ ‏عين‏ ‏حضرة‏ ‏العمدة‏ ‏على‏ ‏الجثة‏ ‏التي أنفصل ‏ ‏رأسها عن الجسد ..‏ حتى ‏دبت‏ بأعلى ‏صوت‏ ‏وسقطت‏ ‏مغشيا‏ ‏عليها‏ ‏.. ووقتها وقعت ‏‏القرية‏ ‏في حيرة ما بعدها حيرة بين‏ ‏الجثة‏ الملقاة وحضرة‏ ‏العمدة‏ ‏التي تتمدد بجوارها ، من‏ ‏يومها‏ وهي راقدة بلا حراك على السرير ،‏ ‏لا يمكنها الحديث‏ مع ‏أحد‏ ، ‏حتي زوجها منع الناس عن رؤيتها‏ ، ومن ليلتها والقرية منقسمة على نفسها‏ بين ‏شامت‏ ‏وبين‏ ‏مشفق ..

0 التعليقات: