وسط الأضواء ..
تزوغ العيون ..
ويفقد الاتزان ..
مستر ( عبده ) الغفير
عمت حالة من العصيان بين رجالات القرية ، الكل عقد النية على عدم السعي إلى الحقول ، الكل يفترش الطرقات المحيطة بدوار العمدة ، وفي نهاية النهار الكل يساق مكرها إلى داره ، كل ما يفعلونه هو اللمة في حلقات متقطعة ، يلعنون فيها الفقر والجهل الذي حدفهم في أحضان زوجات لا يتخيرن عن شجر الجميز ، وفي ليالي السمر يتسرب منهن رائحة روث الحيوانات.
نساء القرية تجمعن أمام عتبات الديار ، يتشاورن وينصبن المكائد للحصول على خرقة ملابس من ريحة الست " ماريا " زوجة ابن العمدة ، ليتفتق جبروت الشيخة لواحظ ، وتدفع عفاريتها ليطاردنها في الأحلام ، لتفر عن ديارهن تاركة لهن بقايا الرجال.
ثلاثة أيام مروا والنعاس يجافي القرية ، الرجال يرتعدون حتى لا تضيع عليهم لحظة ، يمكن أن يروا فيها الست " ماريا " ، وهم الذين ينتظرون إطلالتها المباركة من عام لآخر ، تمر عليهم الأيام في ملل وقلق ، وتجيء لتمكث بينهم أسبوع أو أثنين.
أما ما جري للغفير (عبده) فكان أعتي وأشد ، فهو الغفير المؤتمن الذي يلتصق بها مثل صمغ السنط ، يسندها حينما تهم بامتطاء ظهر الحمار ، ويهز رأسه في ثقة لدس الطمأنينة حينما تصرخ مخافة السقوط ، و يبرم طرفي شنبه عندما تبتسم له شاكره حمايتها من رذالة أطفال القرية العفاريت.
أما في الليل يتهادى في خيلاء وسط حواري القرية شادا قامته القصيرة ، فكل رجال القرية عجائز وشباب يتمنون له الرضا ، وبعد إلحاح منهم يوافق على الجلوس بينهم على الغرزة ، يحمل كل منهم كرسيه ومن لا يجد مكانا حوله يفترش الأرض ، يرتشف على حسابهم كل أصناف المشروبات الساخنة والباردة ، التي لا يذوقها إلا من العام للآخر.. وبعد إلحاح ودس علبة سجائر ماكينة في سيالة جلبابه ، يتنطع في جلسته بعد أن يملي عليهم الشروط وعدم المقاطعة ، ثم ينبري في القص والحكي عن صولاته وجولاته مع الست ماريا ، أغلبيتها يحاك من بنات أحلامه وأمنياته ، الجميع ينصتون وكأنهم سكارى ، يفتحون أفواههم دون حراك أو تعليق رغم أنهم سمعوا هذه الحكايات منه بألوان شتى مئات المرات ، وكلما وصل إلى وصف شعوره وهي تلطع على خديه قبلة حارة عندما تجيء من السفر وحينما تغادر ، يضربون صدورهم ويكادون يشقون جلابيبهم المتهالكة.
كل ما فات كان من اليسير أن يحكيه لأهل القرية مرشوشا على وجهه بعض التوابل ، ولكن هناك واقعة جرت الليلة الماضية ، أغرب من أن يصدقها عقل ، حرص على ألا يعلمها نفر من القرية .. جرت تفاصيلها في الليلة الثالثة من قدوم الست ماريا إلى القرية ، وبالتحديد بعد أن خطف ثلاث ركعات المغرب في المسجد القريب ، ساعتها فضل أن يسلك المدق المجابه لشباك حجرة نومها ، لعل الحظ يحالفه ويملي ناظريه منها.
حينما وصل إلى الدوار لمح حضرة العمدة وشيخ البلد يجلسان في دهليز الدور الأرضي ، أدار مقلتيه البارزتين لتنقب في أنحاء الدار ، مسح بأذنيه وحاسة الشم الحجرات ، بأنفه وعينيه أدرك خلو المكان من الست ماريا وزوجها ، وبحسبة بسيطة أيقن أنهما صعدا إلى حجرتهما بالدور الثاني هربا من لدغات الناموس اللزج .
بدون استئذان تسلل في بطىء شديد متدحرجا بقامته المدكوكة وكرشه المتضخم ، صاعدا درجات السلم المقامة من الطوب اللبن وجريد النخل، أرسى شراعه على أريكة من خشب التوت ملقاة في أحد جوانب دهليز الدور العلوي .
انتظر برهة خروج ماريا من حجرتها، لتوميء إليه بالإشارة ليتم مهمته المعتادة في رش مسحوق الناموس الذي جلبته معها من بلاد برة ، ولكن البرهة طالت وتحولت بمرور الوقت لقلق دفعه للتقلب في جلسته ، وكلما طالت أحس بأسراب من النمل الأبيض تزحف داخل أطرافه ، ودبابير سوداء تحوم وتطن في أركان رأسه الملفوفة بشال أبيض لا يغسله إلا من عام لآخر ..
- الله يخزيك يا شيطان.
كان وقع الانتظار صعبا على مستر عبده ، جعله يفقد الإحساس بلدغ الناموس الذي يتعارك للفوز بدم قدميه العاريتين ، والنية بداخله تتصارع وتقوي وتتضخم ، والرغبة تدفعه لإتمام ماخطط له ، دافعا تكونت أطرافه من أحلام وأوهام اجترها عبر ثلاث ليال ماضية .. والليلة حان وقت تنفيذها ، ولن يترك نفسه حبيسا للخوف من بطش العمدة إذ ما تم ضبطه متلبسا.
كل ما كان يراوده هو حلم اختلاس النظر إلى ماريا وهي ممدة بجسدها " الملعلط " الأبيض مثل قشدة الجاموسة ، فوق السرير النحاسي الموجود في حجرتها المدهونة باللون الأحمر .
- الله يخزيك يا شيطان.
انتفض (عبده) من مكانه ليبعد وسواس الشيطان ، أخذ يروح ويجيء أمام السلم ، ولكن في نهاية المطاف استسلم للتفكير في الخطة ، التي قضى الليالي يرسم فيها ، لتفادى الوقوع في المحظور ، وضبطه في حالة تلبس وهو يتطلع من الفتحات التي ملأت باب الحجرة العتيق.
جاءت لحظة التنفيذ ، حينما تناهى له صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة العشاء ، وحضرة العمدة ينادي على ابنته لتجلب إبريق الماء ، يجدد وضوءه ويصطحب شيخ البلد كالعادة إلى المسجد ، وتخلوا الدار من صنف الرجال ماعدا ابن العمدة الغاطس في بحر اللبن.
- مالك يا مدعوق هتوقع علينا السقف .. مش تيجي تصلي معنا.
- جاي وراك يا شيخ البلد.
كل ما كان يخشاه عبده ويعمل له ألف حساب ، أن السقف يفضح أمره، فهو عروق من أفرع التوت مشدودة بين الحوائط ، تربط بأعواد من البوص وجريد النخيل .. حينما يمر فوقه شخص يظل يلب ويصدر أصوات تفضح حركة الأقدام.
شب عبده على أصابع قدميه ، أطل برأسه التي تشبه في حجمها رأس العجل ، من بين عروق البلكونة ، لمح حضرة العمدة وشيخ البلد وهما يقصدان الباب ، سرت الطمأنينة في قلبه بعض الشيء، ولكنه كان اطمئنانا يشوبه الخوف من زوجة حضرة العمدة ونساء العائلة المرصوصين في دهليز الدوار، ويمكنهن اكتشاف فعلته.
- الله يخزيك يا شيطان.
رددها عبده بعد أن أحبط الخوف همته ودفعه للجلوس مرة أخري على الأريكة ، ولكن الفكرة الجهنمية ظلت تطارده حتى سيطرت عليه مرة أخرى ، دفعته صورة شفتا ماريا التي تلطع بهما القبلات على خدود رجال العائلة دون حياء بأن ينتفض من مكانه ويخاطر ، رغم أن مصيره معروف إذا ما تم ضبطه ،علقه ساخنة في حجرة التليفون ، وفضيحة بين أهل القرية بعد أن يتهمه العمدة بسرقة البهائم ، وفي النهاية عزله من العمل وقذفه خارج القرية بصحبة أولاده.
- الله يخزيك يا شيطان ..
خلع عبده حذاءه القديم الذي منحته له ماريا ، أمسك طرف جلبابه بأسنانه ، خطى على مهل معتمدا على أصابع قدميه ، ملتصقا بالحائط لكونه المنطقة القوية من السقف .. كانت مشيته أقرب لزحف الأوز ، حتى وصل إلى باب الحجرة ، وسط إضاءة مخنوقة للمبات جاز معلقة في أركان الدهليز ، دس أنفه وعينيه الضيقتين في فتحة من فتحات الباب ، في بادي الأمر لم ير أحد داخل الحجرة ، لأن الظلمة كانت تضرب أركانها، أنتقل إلى فتحة أوسع ولكنه فشل أيضا في رؤيتها ، فتنهد كاتما أنفاسه مخافة أن تسقط السقف .
تكون لديه يقين من نومها على السرير ، شب حتى وصل إلى فتحة أعلى الباب واسعة ، عسر كل قواه وركز نظره لكي يتمكن من رؤيتها داخل العتمة , لمح شيئا أبيض ملقي في استهتار فوق السرير ، اجتاحه شعور بأنه لا بد أن جسدها الأبيض الذي يبرز من ملابسها حينما تسير وسط حارات القرية ، أكدته الرائحة الرقيقة الفواحة من الداخل ، التي غطت على رائحة مبيد البراغيث والحشرات المرشوش في أرضية الدار.
لمح جزء أبيض يتدلى على جانب السرير ، أدرك أنه لا بد أنه ساقيها وتستعد للنزول ، فهاتين الساقين يعرفهما جيدا وطالما قبلهما في الحلم ، ساقان دفعا شباب ورجال القرية إلى اعتزال الفلاحة في الحقول ، والتسكع بالقرب من دوار العمدة لعلهم يظفرون بنظرة منهما .
بعد لحظات رأى الجسد الأبيض يشوبه لونا أحمر ، دب بداخله شهوة عارمة حينما تخيلها وهي تنتصب أمامه بقميص نومها ، تتمطى في بطء وتثاؤب ، تغازل شعرها الذهبي الناعم بيديها البيضوتين .
تحرك هذا الجسد الأبيض ذي الحمرة في اتجاه الباب ، داهمته صدمة ودوار أوقعه في حيرة ، إذا جاءته الجرأة وهرول مبتعدا عن الباب ، سوف يهتز السقف وتفضحه آثار أقدامه ، وفي حالة تسمره أمام الباب فمصيره معروف .. أصابته الصدمة بالحيرة لثوان معدودة ، مرت عليه كأنها قرون ، لأنه تخيل نفسه وهو مجرور بين يدي الغفر إلى حجرة التليفون .
تفصد وجهه المنفوخ ببرك عرق ، كادت من تدفقها أن تتسرب إلى الدور الأرضي وتغرق النساء ، ولكن الحظ حالفه حينما حاد الجسد الأبيض وبدل وجهته قاصدا شباك الحجرة البعيد..
لم ينفك يذهب عنه الخوف ، حتى هاله صوت وقع أقدام تصعد درجات السلم ، مصحوبة بصيحات تهليل وضحكات.. حاول القفز من مكانه ولكن لم تسعفه قدماه ، شعر بأنهما أكياس رمل وجبس ، توقفت هذه الحركة على السلالم ، اقنع نفسه بأنها لأحد الأطفال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
قبل أن يعاود تلصصه ، جاءت نسمه خفيفة أطفأت إحدى المصابيح ، ذكرته بالنصيب الذي حدفه بزينب مراته الملعونة ، مازالت فعلتها ليلة الخميس الماضية عالقة في ذهنه ، حينما داعبها أثناء التهام وجبه العشاء، وغمز لها بعينيه حتى لا يفهمه الأولاد.
- أخمدي العيال لحد ما أروح اشرب نفسين جوزة وأرجع بسرعة ..
ولكن نفس الجوزة سلم لنفس آخر وتأخر عبده ساعة كاملة ، بعدها رجع وهو يفكر طول الطريق في ليلة الخميس ، حتى وصل إلى بيته فسمع شخير زوجته يغطي على نهيق حمير القرية كلها ، ليلتها فتح باب الحجرة وكان الجو مظلما ، بحث عن زوجته الملقية مثل زكيبة الذرة وسط حفنة من الأولاد المنثورين حولها فوق ظهر الفرن ، أصطدم بهم حتى وصلت يده إلى باطن قدمها المتسختين ، ولكن ما كان عليها إلا أن انقلبت ، حاول عددا من المرات ولكن النتيجة ..
- نام يا راجل أختشي العيال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
عاود عبده الكرة ومد أنفه وعينيه داخل الفتحة ، سمع آهات بحث عن مصدرها ، شعر بأن الجسد الأبيض يتحرك نحو السرير ، لمح شيئا أسود بجواره ملقي جزء منه على السرير وجزء آخر يلامس بأطرافه الأرض .. أدرك بأنه جسد ابن العمدة المحظوظ ، وفي ثوان كان الجسد الأبيض يصعد فوق الأسود..
- الله يخزيك يا شيطان .. أعوذ بالله ..
انتفض عبده مذعورا مبتعدا عن الباب ، متخلصا من الخوف الذي كان يتملكه ، أثناء نزوله لصلاة العشاء ، فوجئ بأن ماريا وزوجها هما اللذان جاءا ويجلسان مع نسوة الأسرة ، ولم يكونا في الحجرة ..
تزوغ العيون ..
ويفقد الاتزان ..
مستر ( عبده ) الغفير
عمت حالة من العصيان بين رجالات القرية ، الكل عقد النية على عدم السعي إلى الحقول ، الكل يفترش الطرقات المحيطة بدوار العمدة ، وفي نهاية النهار الكل يساق مكرها إلى داره ، كل ما يفعلونه هو اللمة في حلقات متقطعة ، يلعنون فيها الفقر والجهل الذي حدفهم في أحضان زوجات لا يتخيرن عن شجر الجميز ، وفي ليالي السمر يتسرب منهن رائحة روث الحيوانات.
نساء القرية تجمعن أمام عتبات الديار ، يتشاورن وينصبن المكائد للحصول على خرقة ملابس من ريحة الست " ماريا " زوجة ابن العمدة ، ليتفتق جبروت الشيخة لواحظ ، وتدفع عفاريتها ليطاردنها في الأحلام ، لتفر عن ديارهن تاركة لهن بقايا الرجال.
ثلاثة أيام مروا والنعاس يجافي القرية ، الرجال يرتعدون حتى لا تضيع عليهم لحظة ، يمكن أن يروا فيها الست " ماريا " ، وهم الذين ينتظرون إطلالتها المباركة من عام لآخر ، تمر عليهم الأيام في ملل وقلق ، وتجيء لتمكث بينهم أسبوع أو أثنين.
أما ما جري للغفير (عبده) فكان أعتي وأشد ، فهو الغفير المؤتمن الذي يلتصق بها مثل صمغ السنط ، يسندها حينما تهم بامتطاء ظهر الحمار ، ويهز رأسه في ثقة لدس الطمأنينة حينما تصرخ مخافة السقوط ، و يبرم طرفي شنبه عندما تبتسم له شاكره حمايتها من رذالة أطفال القرية العفاريت.
أما في الليل يتهادى في خيلاء وسط حواري القرية شادا قامته القصيرة ، فكل رجال القرية عجائز وشباب يتمنون له الرضا ، وبعد إلحاح منهم يوافق على الجلوس بينهم على الغرزة ، يحمل كل منهم كرسيه ومن لا يجد مكانا حوله يفترش الأرض ، يرتشف على حسابهم كل أصناف المشروبات الساخنة والباردة ، التي لا يذوقها إلا من العام للآخر.. وبعد إلحاح ودس علبة سجائر ماكينة في سيالة جلبابه ، يتنطع في جلسته بعد أن يملي عليهم الشروط وعدم المقاطعة ، ثم ينبري في القص والحكي عن صولاته وجولاته مع الست ماريا ، أغلبيتها يحاك من بنات أحلامه وأمنياته ، الجميع ينصتون وكأنهم سكارى ، يفتحون أفواههم دون حراك أو تعليق رغم أنهم سمعوا هذه الحكايات منه بألوان شتى مئات المرات ، وكلما وصل إلى وصف شعوره وهي تلطع على خديه قبلة حارة عندما تجيء من السفر وحينما تغادر ، يضربون صدورهم ويكادون يشقون جلابيبهم المتهالكة.
كل ما فات كان من اليسير أن يحكيه لأهل القرية مرشوشا على وجهه بعض التوابل ، ولكن هناك واقعة جرت الليلة الماضية ، أغرب من أن يصدقها عقل ، حرص على ألا يعلمها نفر من القرية .. جرت تفاصيلها في الليلة الثالثة من قدوم الست ماريا إلى القرية ، وبالتحديد بعد أن خطف ثلاث ركعات المغرب في المسجد القريب ، ساعتها فضل أن يسلك المدق المجابه لشباك حجرة نومها ، لعل الحظ يحالفه ويملي ناظريه منها.
حينما وصل إلى الدوار لمح حضرة العمدة وشيخ البلد يجلسان في دهليز الدور الأرضي ، أدار مقلتيه البارزتين لتنقب في أنحاء الدار ، مسح بأذنيه وحاسة الشم الحجرات ، بأنفه وعينيه أدرك خلو المكان من الست ماريا وزوجها ، وبحسبة بسيطة أيقن أنهما صعدا إلى حجرتهما بالدور الثاني هربا من لدغات الناموس اللزج .
بدون استئذان تسلل في بطىء شديد متدحرجا بقامته المدكوكة وكرشه المتضخم ، صاعدا درجات السلم المقامة من الطوب اللبن وجريد النخل، أرسى شراعه على أريكة من خشب التوت ملقاة في أحد جوانب دهليز الدور العلوي .
انتظر برهة خروج ماريا من حجرتها، لتوميء إليه بالإشارة ليتم مهمته المعتادة في رش مسحوق الناموس الذي جلبته معها من بلاد برة ، ولكن البرهة طالت وتحولت بمرور الوقت لقلق دفعه للتقلب في جلسته ، وكلما طالت أحس بأسراب من النمل الأبيض تزحف داخل أطرافه ، ودبابير سوداء تحوم وتطن في أركان رأسه الملفوفة بشال أبيض لا يغسله إلا من عام لآخر ..
- الله يخزيك يا شيطان.
كان وقع الانتظار صعبا على مستر عبده ، جعله يفقد الإحساس بلدغ الناموس الذي يتعارك للفوز بدم قدميه العاريتين ، والنية بداخله تتصارع وتقوي وتتضخم ، والرغبة تدفعه لإتمام ماخطط له ، دافعا تكونت أطرافه من أحلام وأوهام اجترها عبر ثلاث ليال ماضية .. والليلة حان وقت تنفيذها ، ولن يترك نفسه حبيسا للخوف من بطش العمدة إذ ما تم ضبطه متلبسا.
كل ما كان يراوده هو حلم اختلاس النظر إلى ماريا وهي ممدة بجسدها " الملعلط " الأبيض مثل قشدة الجاموسة ، فوق السرير النحاسي الموجود في حجرتها المدهونة باللون الأحمر .
- الله يخزيك يا شيطان.
انتفض (عبده) من مكانه ليبعد وسواس الشيطان ، أخذ يروح ويجيء أمام السلم ، ولكن في نهاية المطاف استسلم للتفكير في الخطة ، التي قضى الليالي يرسم فيها ، لتفادى الوقوع في المحظور ، وضبطه في حالة تلبس وهو يتطلع من الفتحات التي ملأت باب الحجرة العتيق.
جاءت لحظة التنفيذ ، حينما تناهى له صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة العشاء ، وحضرة العمدة ينادي على ابنته لتجلب إبريق الماء ، يجدد وضوءه ويصطحب شيخ البلد كالعادة إلى المسجد ، وتخلوا الدار من صنف الرجال ماعدا ابن العمدة الغاطس في بحر اللبن.
- مالك يا مدعوق هتوقع علينا السقف .. مش تيجي تصلي معنا.
- جاي وراك يا شيخ البلد.
كل ما كان يخشاه عبده ويعمل له ألف حساب ، أن السقف يفضح أمره، فهو عروق من أفرع التوت مشدودة بين الحوائط ، تربط بأعواد من البوص وجريد النخيل .. حينما يمر فوقه شخص يظل يلب ويصدر أصوات تفضح حركة الأقدام.
شب عبده على أصابع قدميه ، أطل برأسه التي تشبه في حجمها رأس العجل ، من بين عروق البلكونة ، لمح حضرة العمدة وشيخ البلد وهما يقصدان الباب ، سرت الطمأنينة في قلبه بعض الشيء، ولكنه كان اطمئنانا يشوبه الخوف من زوجة حضرة العمدة ونساء العائلة المرصوصين في دهليز الدوار، ويمكنهن اكتشاف فعلته.
- الله يخزيك يا شيطان.
رددها عبده بعد أن أحبط الخوف همته ودفعه للجلوس مرة أخري على الأريكة ، ولكن الفكرة الجهنمية ظلت تطارده حتى سيطرت عليه مرة أخرى ، دفعته صورة شفتا ماريا التي تلطع بهما القبلات على خدود رجال العائلة دون حياء بأن ينتفض من مكانه ويخاطر ، رغم أن مصيره معروف إذا ما تم ضبطه ،علقه ساخنة في حجرة التليفون ، وفضيحة بين أهل القرية بعد أن يتهمه العمدة بسرقة البهائم ، وفي النهاية عزله من العمل وقذفه خارج القرية بصحبة أولاده.
- الله يخزيك يا شيطان ..
خلع عبده حذاءه القديم الذي منحته له ماريا ، أمسك طرف جلبابه بأسنانه ، خطى على مهل معتمدا على أصابع قدميه ، ملتصقا بالحائط لكونه المنطقة القوية من السقف .. كانت مشيته أقرب لزحف الأوز ، حتى وصل إلى باب الحجرة ، وسط إضاءة مخنوقة للمبات جاز معلقة في أركان الدهليز ، دس أنفه وعينيه الضيقتين في فتحة من فتحات الباب ، في بادي الأمر لم ير أحد داخل الحجرة ، لأن الظلمة كانت تضرب أركانها، أنتقل إلى فتحة أوسع ولكنه فشل أيضا في رؤيتها ، فتنهد كاتما أنفاسه مخافة أن تسقط السقف .
تكون لديه يقين من نومها على السرير ، شب حتى وصل إلى فتحة أعلى الباب واسعة ، عسر كل قواه وركز نظره لكي يتمكن من رؤيتها داخل العتمة , لمح شيئا أبيض ملقي في استهتار فوق السرير ، اجتاحه شعور بأنه لا بد أن جسدها الأبيض الذي يبرز من ملابسها حينما تسير وسط حارات القرية ، أكدته الرائحة الرقيقة الفواحة من الداخل ، التي غطت على رائحة مبيد البراغيث والحشرات المرشوش في أرضية الدار.
لمح جزء أبيض يتدلى على جانب السرير ، أدرك أنه لا بد أنه ساقيها وتستعد للنزول ، فهاتين الساقين يعرفهما جيدا وطالما قبلهما في الحلم ، ساقان دفعا شباب ورجال القرية إلى اعتزال الفلاحة في الحقول ، والتسكع بالقرب من دوار العمدة لعلهم يظفرون بنظرة منهما .
بعد لحظات رأى الجسد الأبيض يشوبه لونا أحمر ، دب بداخله شهوة عارمة حينما تخيلها وهي تنتصب أمامه بقميص نومها ، تتمطى في بطء وتثاؤب ، تغازل شعرها الذهبي الناعم بيديها البيضوتين .
تحرك هذا الجسد الأبيض ذي الحمرة في اتجاه الباب ، داهمته صدمة ودوار أوقعه في حيرة ، إذا جاءته الجرأة وهرول مبتعدا عن الباب ، سوف يهتز السقف وتفضحه آثار أقدامه ، وفي حالة تسمره أمام الباب فمصيره معروف .. أصابته الصدمة بالحيرة لثوان معدودة ، مرت عليه كأنها قرون ، لأنه تخيل نفسه وهو مجرور بين يدي الغفر إلى حجرة التليفون .
تفصد وجهه المنفوخ ببرك عرق ، كادت من تدفقها أن تتسرب إلى الدور الأرضي وتغرق النساء ، ولكن الحظ حالفه حينما حاد الجسد الأبيض وبدل وجهته قاصدا شباك الحجرة البعيد..
لم ينفك يذهب عنه الخوف ، حتى هاله صوت وقع أقدام تصعد درجات السلم ، مصحوبة بصيحات تهليل وضحكات.. حاول القفز من مكانه ولكن لم تسعفه قدماه ، شعر بأنهما أكياس رمل وجبس ، توقفت هذه الحركة على السلالم ، اقنع نفسه بأنها لأحد الأطفال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
قبل أن يعاود تلصصه ، جاءت نسمه خفيفة أطفأت إحدى المصابيح ، ذكرته بالنصيب الذي حدفه بزينب مراته الملعونة ، مازالت فعلتها ليلة الخميس الماضية عالقة في ذهنه ، حينما داعبها أثناء التهام وجبه العشاء، وغمز لها بعينيه حتى لا يفهمه الأولاد.
- أخمدي العيال لحد ما أروح اشرب نفسين جوزة وأرجع بسرعة ..
ولكن نفس الجوزة سلم لنفس آخر وتأخر عبده ساعة كاملة ، بعدها رجع وهو يفكر طول الطريق في ليلة الخميس ، حتى وصل إلى بيته فسمع شخير زوجته يغطي على نهيق حمير القرية كلها ، ليلتها فتح باب الحجرة وكان الجو مظلما ، بحث عن زوجته الملقية مثل زكيبة الذرة وسط حفنة من الأولاد المنثورين حولها فوق ظهر الفرن ، أصطدم بهم حتى وصلت يده إلى باطن قدمها المتسختين ، ولكن ما كان عليها إلا أن انقلبت ، حاول عددا من المرات ولكن النتيجة ..
- نام يا راجل أختشي العيال ..
- الله يخزيك يا شيطان ..
عاود عبده الكرة ومد أنفه وعينيه داخل الفتحة ، سمع آهات بحث عن مصدرها ، شعر بأن الجسد الأبيض يتحرك نحو السرير ، لمح شيئا أسود بجواره ملقي جزء منه على السرير وجزء آخر يلامس بأطرافه الأرض .. أدرك بأنه جسد ابن العمدة المحظوظ ، وفي ثوان كان الجسد الأبيض يصعد فوق الأسود..
- الله يخزيك يا شيطان .. أعوذ بالله ..
انتفض عبده مذعورا مبتعدا عن الباب ، متخلصا من الخوف الذي كان يتملكه ، أثناء نزوله لصلاة العشاء ، فوجئ بأن ماريا وزوجها هما اللذان جاءا ويجلسان مع نسوة الأسرة ، ولم يكونا في الحجرة ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق