الحلم يباع ..
ولكن الروح لا تشترى
يا روح ما بعدك روح
على مدار ثلاثة أشهر وأنا احتمل من زوجتي،ما يصعب على نفر أن يطيقه من أهل القرية،لذعات وإهانات من لسان أشد حدة من موس حلاقة الأوسطى شحتة الحلاق،ولكن ما باليد حيلة فهي ولية نعمتي ومن عائلة غنية ومتجبرة..
حتى لا أترك نفسي لأحبال الكذب من بداية الحكاية، كان الفدان الزراعي الذي دسه أخواتها،والجلابيب الصوف المستوردة، دافع قوي للصبر وتبلد المشاعر وسماكة الجلد..
وإحقاقا للحق كنت محل حقد من أهل القرية،ألمح في عيونهم استكثار النعمة، وفي أيديهم وألسنتهم وهم يتغامزون ويتلامزون على العبيط الذي شال الشيلة، الكل يلمح "خلسة" بأن أهلها ابتاعوني ليدارون مصيبتهم..والخلسة ليست خوفا مني فأنا فلاح غلبان مستأجر،ولكن كان من جبروت أهلها.
رغم ذلك فهم أناس طيبون لم يكتشفوا يوما بأني عبقريتي .. حتى بعد إرتكابي المصيبة التي سوف أقصه عليكم تفاصيلها ، والتي يبين حنكتي في اتقاء شرها،بعد أن صارحتني بضرورة تركها .. وكلما تلكأت في ترك ذلك العز ، شممت منها رائحة تهديد ووعيد ، ولكن عندما تتعلق المسألة بروحي "فيا روح ما بعدك روح"..
يمكنني أن أطفح لكم بكل ما في جوفي .. ولكن بعد الحصول منكم على عهد،أن تقذفوا كل ما تسمعوه مني في بير عميق ليس له قاع ،لأنني بصراحة أرتعد أن تصل إلى أسماع أهل زوجتي فيسارعون بقتلي، لذا أنا حريص على كتمان هذا السر حتى الممات..
في البداية الكل يعرف بأنني أقطن معها في دوار واسع ورثته عن الحاج والدها.. من الطوب اللبن مدهون من الخارج باللون الأحمر،وعلى بعد خطوات منه توجد زريبة للبهائم.
وحتى لا تفهمونني خطأ ، فقد تفتقت عبقريتي عن خطة الخلاص منها ، يوم أن ألمحت لي عن نيتها بالخلاص مني مثل زوجها السابق،ليلتها فقط نشطت الفكرة،وكانت ليلة شتوية.. هل تدركون حال قريتنا في مثل تلك الليالي .. تخيلوا سماء لم تتوقف عن البكاء طول يومين متاليين ، وكلاب تعوي وهي تلاحق الحرامية الذين ينشطون في مثل هذه الأوقات،وفوق كل ذلك عتمة مخيفة تضرب كل شيءبالقرية بعد انقطاع الكهرباء..
في هذا الجو المخيف تسللت على درجات سلم الدار،برشاقة لا تتناسب مع كرشي المدبب وقامتي القصيرة المدكوكة.. ولكن إصراري على الاحتفاظ بالفدان والجلابيب،دفعني بأن أمر عبر أكوام القش وعيدان الحطب المرصوص فوق سطح الدار،كأمهر بهلوان يمشي فوق الحبل داخل سيرك البندر ..
وفي ثوان معدودة وصلت إلى فوهة فتحة في سقف حجرة نومها،وفي حذر شديد انتزعت الغطاء الذي يسدها،وعلى مهل مددت رأسي لأتيقن من أنها تغط في النوم،بالكاد لمحت في الضوء الواهن الصادر من مصباح جاز معلق بالقرب من سريرها العتيق ذي الأعمدة النحاسية،سحنتها التي لا تختلف كثيرا عن سحنة " السيد قشطة"، وشخيرها المتدفق من زلومتها التي تستعملها في توجيه الإهانات باستمرار،فتأكدت من أنها ميته أقصد نائمة.
تناولت من " سيالة " جلبابي بعض الحصى الذي اصطحبته معي، في أول حصوة لم أفلح في إصابة هدفي ،فتبعتها بعدد آخر حتى أصبت جسدها مبعثر الأجناب والأرداف.
انتفضت وهي تفرك عيناها بيد،وبالأخرى تكبس شعرها الذي يضارع في شكله ليف النخيل، لم أمهلها وقت للتدبر، فسارعت باستجماع شجاعتي وقواي وسعلت بقوة في صوت يشبه نبرات المرحوم زوجها السابق، وأنزلت من الفتحة إحدى ساقاي بعد أن دهنتها من تراب الكانون بلون أسود ،وبكل قوتي رددت عليها :-
- أنا جاي أخلص الناس منك .. بقي تقتليني
- مين .. يا حافظ أحفظ .. انصرف .
- هأقتلك وأخلص الغلبان جوزك.
لم تتحمل المفاجأة وبأعلى صوت لديها دبت وأغمي عليها..قبل أن يفيق أحد من أهل الدار،هرولت عائدا بنفس الرشاقة،إلى الحجرة التي تعزلني فيها منذ ليلة الدخلة،حجرة ضيقة غير مدهونة، في نهاية الدهليز بالقرب من زريبة البهائم.
بعد أن مسحت ساقاي وغطيت رأسي باللحاف، شعرت بحالة من الهرج في الناحية الأخرى من الدار.. تعمدت بأن يتصاعد شخيري ويصل لكل من بالدار،بعد فترة وجيزة أيقظني إبنها من زوجها السابق وهو يرتعد من الخوف ،فخرجت حافي القدمين في لهفة مصطنعة ،وقتها كانت زوجتي مازالت تغمغم بكلمات لا يفهمها أحد غيري..
لمحت في هيئتها شخص آخر غير زوجتي المتجبرة ، وجه غسله البكاء بأكوام من الكحل ، ورعشة شديدة في جسدها،انتفضت على أثرها أكوام الشحم .. ووجدت دموعي بحسبة بسيطة تنهمر وأطرافي تتشنج خوفا على زوجتي ..
سعت تجاهي بعد أن أنساها الخوف حقنة السم التي حقنتني بها قبل النوم في الوريد،أشرت إلى الابن أن يروح إلى حجرته،حتى يمكنه الاستيقاظ مبكرا للحاق بمدرسته،وأمرت الخادمة وبناتها بالخروج،وحينما خلا المكان سألتها في مسكنة:-
- مالك يا أغلي الناس.
بكلمات مدغدغة ..
- عفريت المرحوم ناوي يقتلني .
- يا شيخة عفريت إيه .. دا كابوس
- والله شوفته.. وكلمته
أشارت بيديها المكتنزة إلى فتحة السقف،ولكنها انصدمت حينما رأتها مسدودة بإحكام ،فعقد لسانها الأطول من الكرباج وأخذت تقسم برأس أبوها .
في هذا الوقت تجلت عبقريتي،وتفتقت عن حيل وتفانين ،جعلتني أقنعتها بأن ما رأته كابوس وتأنيب ضمير.
في تلك الليلة رجتني وتذللت إلي بأن أغفو بجوارها لأول مرة على السرير ، ولكني اختلقت الحجج حتى أعطي نفسي فرصة استكمال مخططي .. تسللت بعد أن نامت قاصدا حجرتي، وسط فرحة عارمة بما حققته عبقريتي..
قبل أن يعم نور الصبح القرية كان الخبر قد انتشر ، مزركشا بتفاصيل وضعتها الخادمة بما وسعها من تخيلات .. لم يصادفن نفر في الطرقات والحواري حتى أوقفني وألح علي لمعرفة الحقيقة،وحتى أتخلص منهم ،كنت أقسم لهم بأن زوجتي سليمة ولكن الواضح أن الجن مسها أو خاواها..
حل الليل وجاء الأخ الأكبر بجسده الفارع،مصطحبا معه زوجته وأولاده السبعة،كادت رأسه الملفوفة بشال أبيض ضخم،أن تلتطم بفوهة الباب من أعلى،وبعد أن أطمأن على أخته،راح إلى الكنبة العتيقة القريبة من الفرن،جلس مستندا على مخدة كبيرة أحضرتها الخادمة من حجرة زوجتي .
انقضت الليلة بين لسعات لسانه الذي لا يقل حدة وطول عن لسان أخته،ودخان الجوزة الذي مكث يعب منه حتى أصابني بدوار، متباهيا بشاربه الذي يقف عليه الصقر، ولأنني عبقري أظهرت له رثائي على زوجتي،متحملا كل الإهانات حتى مضي إلى داره ..
سبقت زوجتي إلى حجرتي مدعيا الإرهاق والتعب،وحينما جاءت لتوقظني ادعيت النوم العميق،فما كان منها إلا أن نعتتني بعدد من الطلقات السامة،وأغلقت خلفها الباب بشدة وراحت إلى حجرتها .
أنتظرت حتى هل منتصف الليل ، تسللت بخفة وسط ظلمة تحيط بالدهليز ،حتى وصلت إلى باب حجرتها،وبمجرد أن واربته بهدوء هاجمني شخيرها المتقطع،مما جعل الاطمئنان يدب بداخلي ، دلفت بحذر شديد حتى وصلت بالقرب من سريرها،أطفأت اللمبة الكيروسين واستلقيت تحته..
نسيت أن أصارحكم بأنها هي التي تصرف على البيت من ميراثها،لذا كنت أخاف بأن تطلقني،فأعود مرة أخري للعمل مستأجرا في الحقول ..
في أثناء ذلك انفلت جسدها الضخم وأنقلب تجاهي،حتى كادت تقسم ظهري نصفين،حاولت رفع خشب السرير من أسفل عددا من المرات،حتى سقط لوح متواجد أسفل رأسها،انتفضت على أثرها مذعورة صارخة بأعلى صوت :-
- عفريت .. عفريت .. عفرييييت
هرولت متخبطة في عتمة الحجرة،حتى وصلت إلى دهليز الدار حافية القدمين وبشعر منكوش،صدمها الظلام الدامس الذي يحيط بالدار،انطلقت تتخبط حتى وصلت إلى حجرتي،قابلتها على الباب رابضا على ذراعيها،ارتمت على كتفي وهي ترتعش وتنتفض من الخوف.
استيقظ كل من في الدار،حتى البط الساكن بجوار الفرن الموجود في آخر الدهليز..
أسرعت ناحية حجرتها في ضوء اللمبة التي أحضرتها الخادمة،بحثت عن العفريت التي تأكد رؤيته ووجوده،وأمام الجميع وبعبقريتي المعهودة أثبت لها بأن كل ما تراه أوهام وكوابيس.
ظلت فترة تتلفت وتقسم بأغلظ الأيمان،وبعينين مذهولتين زائغتين أخذت تتلفت،وتتصنت على أصوات الرياح أثناء اصطدامها بالحطب المرصوص فوق سطح الدار ..
ليلتها قبضت على ذراعي بيديها الغليظتين،وأمام إصرارها ألقيت بجسدي الضعيف على سريرها .. وحتى أكون صريحا كانت تلك الليلة صعبة ،فقد أضعف خوفها عزيمتي،وكدت أتراجع عن نيتي وأفتح معها صفحة جديدة،لولا ما رأيته في صباح اليوم التالي ..
رأيت عادل أفندي مدرس إبنها داخل حجرة الضيوف،يربت بيده على كتفها،وهي تحكي وتبكي مما أصابها من رعب،دفعني ذلك لتذكر تلك الليلة الكئيبة،ليلتها رجعت إلى الدار ورأيت ما رأيت،أرجوكم لا تسألوني عن تفاصيل ما لمحته،حيائي يمنعني من البوح .. ولكن كل ما يمكنني قوله،هو أن أحكي لكم عن عبقريتي في تلك الليلة.
وقتها لم يكن قد مر على زواجنا غير شهر،كنت قادما من ناحية الجرن،وسط برك من الطين،لمحت ترباس باب الدار مفتوح،وإضاءة المصباح الباهتة تتسرب من فتحات شباك حجرة الضيوف،تيقنت من وجود أغراب،وقفت بجوار الباب الكبير لأخلع حذائي المغسول بالطين،تنامت إلى سخسخات وآهات زوجتي .. مددت رأسي ..فرأيت ما رأيت ..
- لو كنتم مكاني ماذا ستفعلون ؟
لولا عبقريتي لاندفعت مثلكم،وعملت مثلما فعل زوجها المرحوم حينما رأي ما رأيت،والنتيجة تعرفونها فلم يمهله القدر حتى الصباح،ففي آذان الفجر قامت ميكروفونات الجوامع تنعي الفقيد ..
ولأنني ذكي وعبقري،تراجعت إلى الطين والشتاء المنهمر في الخارج،فيا روح ما بعدك روح،وبقيت أكثر من ساعة محتميا بحزم الحطب المرصوصة في أحد أركان الجرن حتى خرج عادل أفندي،استجمعت كل قواي ودخلت مبتسما على زوجتي وكأنني لم أر شئ ..
زادتني تلك الذكريات إصرارا على تنفيذ مخططاتي للنهاية،في الليلة التالية حينما سمع أخوها حكاية العفريت،أصر على إحضار الشيخ مبروك،ليخرج من جسدها الجان،ولكن بحيلي المعهودة توسلت إليه حتى ينتظر.. فوافق على مضد خشية الفضائح .
بعد أن خلد الجميع إلى النوم،تصنعت بأنني غفوت بجوارها،ولكن الحقيقة أن صورة عادل أفندي كانت تقلقني،قبل أن تنام بقيت فترة ملتصقة بي من الخوف،حينما تعالت زلومتها بالشخير،تسللت إلى حجرتي لأحضر كيس من القماش،بهدوء أخرجت منه ثعبان،كنت قد اشتريته من أحد الكفور القريبة،بعد أن نزعت منه الأسنان و اللسان،أطلقته بجوارها،وبحركة عفوية مددت قدمي ولكزتها بقوة عدة مرات،لم تمر دقائق حتى وجدتها في وسط الحجرة تصرخ وتولول ..
- تعبان .. تعبان
انتفضت ورحت لأرفع إضاءة المصباح حتى أرى الثعبان،ولكن اللمبة أطفئت وعمت العتمة..
تدحرجت زوجتي إلى الدهليز حافية وكتل اللحم المترهل تتطوح ،أحضرت المصباح الموجود في الخارج،دخلت معها للبحث عن الثعبان،فلم نجد له أثر.
في الصباح تحولت القرية إلى خلية نحل،الكل يطن ويزن بأن زوجتي بنت الحسب والنسب أصبحت مجنونة .. بصراحة أشفقت عليها،ولكن ما باليد حيلة فيا روح ما بعدك روح ..
في ذلك اليوم أصرت عائلتها على اصطحابها إلى المصحة النفسية في البندر،حتى لا تتدهور حالتها الصحية،لم تشفع توسلاتي ورجواتي فوافقت على مضد ..
ظللت طوال اليوم أواسي زوجتي،لم تتوقف عن البكاء والنحيب والتحدث مع نفسها،بعد أن فقدت قدرتها على التميز عن تحديد الحقيقة من الجنون.
أما أهل القرية فقد قضوا يومهم بين المجيء والذهاب للاطمئنان،أو بالأصح للتأكد مما سمعوه،قبل إرسالها للمصحة النفسية في صباح اليوم التالي ..
في تلك الليلة جاءت ليلة الفصل،استجمعت شجاعتي وقواي لأنهي المخطط،بكل عبقرية وبراعة بقيت بجواري زوجتي حتى قبل آذان الفجر..وعندما تأكدت من نومها، كان لا بد أن أنهي الحكاية بعبقرية فذة،لن يتوصل إليها أغبياء القرية.
أثناء استغراقها في النوم،فككت فوهة المصباح وسكبت منه الكيروسين، وقبل أن تفيق من غفوتها،كنت قد أشعلت فيها النار،بعدت عنها مسرعا إلى حجرتي،وظلت تصرخ في الدهليز وسط النيران،تجمع على آثرها أهل القرية،فتحت الباب الخارجي حتى يلمحني الكل،وأنا أحمل اللحاف بين يدي،لأطفئ النار التي تمسك بها،ولكنها كلما كانت تراني تسرع مبتعدة لأنها رأتني وأنا أشعل النار ..
كانت قد قاربت على نهايتها،ففتحت باب الدار لأهل القرية الذين اندفعوا ليساعدوني على إطفائها،ولكن السر الإلهي كان قد خرج ..
ومن يومها وأهل القرية يشفقون على،وأهلها تركوا لي بعض ميراثها ..
الخميس، 26 يونيو 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق